أولى

اللبنانيون أخفقوا في حكم أنفسهم… ما العمل؟

 

 د. عصام نعمان*

 

آن الآوان للاعتراف بحقيقة مرّة: اللبنانيون أخفقوا في حكم أنفسهم. تأكّدتْ هذه الحقيقة بعد استقلال البلاد سنة 1943 وتجدّدت منذئذٍ مع انتهاء ولاية كل رئيسٍ للجمهورية واستحقاق انتخاب كلّ رئيس جديد.
أسبابُ هذه الظاهرة متعدّدة، لكن أبرزها خمسة:
ـ تعدّدية عميقة ومزمنة في كينونة البلد ما حال دون تمكّن أحد مكوّناته أو أحد أحزابه السياسية المتنافسة من امتلاك أغلبية وازنة في مجلس النواب.
ـ نشوء طبقة سياسية حاكمة متكالبة على السلطة والمصالح وتبادل المنافع على حساب المصلحة العامة.
ـ تدخلاتٌ أجنبية سياسية وعسكرية زادت الوضع الداخلي تعقيداً وفساداً.
ـ اندلاعُ نزاعات سياسية وطائفية تطوّرت أحياناً الى حضيض حروب أهلية.
ـ قوانين انتخابية فئوية وملغومة أسهمت في تعميق الطائفية السياسية وترسيخ السياسة الطائفية.
جرت محاولاتٌ إصلاحية عدّة لمعالجة هذا الاستعصاء الطوائفي أبرزها مؤتمر الطائف (في السعودية) سنة 1989 ترأسه حسين الحسيني وتمخّض عن اتفاقٍ للوفاق الوطني تضمّن إصلاحات سياسية وإدارية، قامت حكومة سليم الحص، عبر مجلس النواب، بإدخال معظمها في متن الدستور. لكنها لم توضع موضع التنفيذ بسبب صراعات أهل السلطة الفاسدة ومعارضتهم الضمنية لها.
ها هي أزمة لبنان السياسية المزمنة تعود الى الاحتدام بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون أواخرَ شهر تشرين الأول/ اكتوبر 2023 وإخفاق مجلس النواب منذ ذلك الحين في انتخاب رئيس جديد، ووجود حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال يرأسها نجيب ميقاتي.
إذ تتكرّر المشاورات والمحاولات على مختلف الصعد للتوافق على شخص جدير بأن يكون رئيساً جديداً للجمهورية، تتكشف تعقيدات غريبة عجيبة في هذا المجال، كأن تعترض أوساط وقيادات سياسية على إقدام أحد الزعماء السياسيين من غير المسيحيين على ترشيح وإعلان تأييد نوابِ حزبه لقائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية. السبب؟ لأنّ المبادرة إلى الترشيح والتأييد “يجب” أن تصدر، في رأي المعترضين، عن قيادة سياسية مسيحية لكون مركز رئيس الجمهورية مخصّص لمسيحي ماروني وليس لمحمدي!
لنفترض جدلاً أنّ منظومة السياسيين المحترفين والنواب الموزعين على مختلف المذاهب والمشارب توصلوا الى التوافق على شخص مقبول لانتخابه رئيساً في جلسة مجلس النواب المقررة في 9 كانون الثاني/ يناير المقبل، فهل يعني انتخابه أنّ أزمة لبنان السياسية والاجتماعية المزمنة قد أخذت طريقها الى الحلّ؟
الجواب: كلاّ بالتأكيد، لأنّ التداعيات والنزاعات الناجمة عن كينونة البلد التعددية العميقة والمرهقة وسوء استغلالها من قِبل اللاعبين السياسيين المحليين والخارجيين حالت وما زالت تحول دون تمكين اللبنانيين من النجاح في انتخاب رؤسائهم خلال المهل القانونيّة، كما في حكم أنفسهم.
ما العمل؟
لا يجوز الاسترسال في العيش والتعايش في مناخ الأزمة السياسية والاجتماعية المزمنة وتداعياتها ومفاعيلها وظروفها المتكرّرة والسياسيين المحترفين المواظبين على استغلالها بلا كلل لمآرب وأغراض ومصالح خاصة.
للخروج من الأزمة يقتضي اجتراح نظامٍ سياسي ديمقراطي عادل ومتماسك وقادر على المواءمة بين الاختلافات والمشتركات المتعارضة والمتفاعلة داخل المجتمع السياسي والإجتماعي في البلاد. كيف؟ بالشروع دونما إبطاء بتجاوز النظام السياسي الفاسد والمترهّل وإقرار الإصلاحات الجذرية والإجراءات الآيلة الى تحقيقها.
مَن يقوم بها؟ الجواب: القوى والشخصيات الوطنية غير الملوّثة بالفساد داخل النظام القائم، والقوى الوطنية النهضوية الحيّة العابرة للطوائف والمناطق في البلاد.
ما مضمون الإصلاحات المنشودة والإجراءات الآيلة إلى تحقيقها؟
إنّ الإصلاح الأوّل والأهمّ المنشود هو بناء نظام سياسي ديمقراطي عادل ومتماسك وقادر على إنتاج غالبية وطنية ائتلافية عابرة للطوائف والمناطق في مجلس النواب وسائر المجالس التمثيلية المحلية، وذلك باعتماد قانونٍ للانتخاب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته وفق الأسس الآتية:
أ ـ اعتماد وانتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف “وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية” تنفيذاً للمادة 22 من الدستور.
ب ـ اعتماد نظام التمثيل النسبي بما هو الأعدل للتمثيل الشعبي.
ج ـ اعتماد الجمهورية كلها دائرة انتخابية واحدة تنفيذاً للمادة 27 من الدستور التي تنصّ على أنّ “عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء”، بمعنى مجمل الشعب اللبناني.
د ـ خفض سن الاقتراع الى الثامنة عشرة بغية إشراك الأجيال الشابة في نهضة الوطن والمسؤولية العامة والإفادة من قدراتها.
هـ ـ اعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية.
و ـ إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحليّة عملاً بنص المادة 95 من الدستور.
ز ـ التوافق في مجلس النواب وخارجه على اعتماد استراتيجية متكاملة للدفاع الوطني تكفل حماية أمن لبنان وسيادته، وتسليح الجيش الوطني، وضمان مشاركته الفعلية في مواجهة العدو الصهيوني والطامعين في أرض الوطن ومياهه وموارده، وذلك بالتعاون مع قوى المقاومة الشعبية المتاحة.
في حال تباطأت القوى الوطنية داخل مجلس النواب ومجلس الوزراء الحاليين في إقرار هذه الإصلاحات والإجراءات الآيلة الى تحقيقها، فإنّ جميع القوى الوطنية النهضوية الحيّة بكلّ انتماءاتها ومشاربها تكون مدعوة إلى القيام، باستقلال عن أجهزة النظام السياسي القائم، بوضع الإجراءات والترتيبات اللازمة لانتخاب مجلس تأسيسيّ أهليّ مكوّن من مئة عضو على مستوى البلاد كلها كدائرة انتخابيّة واحدة بغية تشكيل نموذج أهليّ متقدّم لمجلس النواب المنشود والمؤهّل لتحقيق الإصلاحات المُشار اليها آنفاً، بحيث يمكن اتخاذه منصةً شعبية لمراقبة أداء سلطات وإدارات وأجهزة النظام القائم ونقدها وتسريع مسيرة تجاوزها بإتجاه الإصلاحات المرجوة. مع العلم أنّ كلفة الترتيبات اللازمة لانتخاب أعضاء المجلس التأسيسيّ محدودة لكون التصويت يجري إلكترونياً.
صحيح أنّ ثمة صعوبة ماثلة في النهوض الى تنفيذ الأولويات الإصلاحية الأكثر إلحاحاً المنوّه بها آنفاً بسبب حال التنافر الطائفي وتدخلات القوى الخارجية، لكن المخاطر الجمّة التي تواجه الجميع، مسؤولين ومواطنين، تستدعي الارتفاع بلا إبطاء إلى مستوى التحديات والمخاطر الماثلة بغية توفير الأسس والآليات اللازمة لمواجهتها والخروج مما نحن فيه من بؤس وتفكك وانحطاط.

*نائب ووزير سابق
[email protected]

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى