لماذا يكره العرب الولايات المتحدة ويرفضون تدخّلها في شؤونهم؟!
د. عدنان منصور*
في مقالة نشرها السياسي الأميركي روبرت كينيدي جونيور، إبن شقيق الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي في مجلة Politico الأميركية عام 2016 تحت عنوان: «لماذا يرفض العرب التدخل الأميركي»؟!
يقول روبرت كينيدي صراحة «إنّ سجل أميركا البغيض من التدخلات العنيفة في سورية، مهّد تربة خصبة للجهاد الإسلامي الشديد»، لا يعرف عنه الأميركيون إلا القليل.
في عام 1957، كان السفير الأميركي جوزيف كينيدي، جدّ روبرت، عضواً في لجنة سرية للتحقيق في سوء تصرّف CIA (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية) في الشرق الأوسط. نتيجة التحقيق، وقع جوزيف كينيدي تقريراً ألقى اللوم فيه على CIAفي انتشار المشاعر المعادية لأميركا، وخطط الانقلابات التي أعدّتها في الأردن وسورية وإيران والعراق ومصر. أشار التقرير الى أنّ مثل هذه التدخلات تتناقض مع القيَم الأميركية، وهذا هو التاريخ الدموي ـ يقول روبرت كينيدي ـ الذي يدركه دعاة التدخل المعاصرين أمثال جورج بوش.
عام 1957، وبعد محاولة انقلابية فاشلة في سورية أعدّتها CIA، دعا السيناتور جون كينيدي في خطاب له الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، وزعماء الحزبين الديمقراطي والجمهوري، والحلفاء الأوروبيين إلى إنهاء التدخل الإمبريالي في العالم العربي، وحقه في الحكم الذاتي.
إنّ العرب ـ يقول كينيدي ـ يكرهوننا بسبب الطريقة التي خنّا بها المثل العليا داخل حدودهم.
كان خطاب كينيدي دعوة لأميركا كي تعيد التزامها بالقيم العليا التي حدّدها ميثاق الأطلسي عام 1941، أيّ التعهّد الرسمي من جانب الأوروبيين، بأنّ كلّ المستعمرات الأوروبية السابقة، لها الحق في الحكم الذاتي، كشرط أساسي تمسك به الرئيس روزفلت، للحصول على الدعم الأميركي ضدّ النازية.
من المعلوم أنه خلال فترة الخمسينيات، رفض أيزنهاور وألان دالس مدير CIAووزير الخارجية جون فوستر دالس جعل الشرق الأوسط منطقة محايدة، وترك العرب يحكمون بلادهم بأنفسهم. لكن ممارساتCIA في عهد مديرها ألان دالس كانت تتعارض مع السياسات الخارجية الأميركية المعلنة للدولة.
في عام 1949، وبعد أقلّ من سنة على إنشاء CIA، دبّرت واشنطن انقلاباً عسكرياً ضدّ شكري القوتلي بسبب تردّده في الموافقة على مشروع أميركي لربط حقول النفط في السعودية بموانئ لبنان عبر سورية. جاء الانقلاب بحسني الزعيم الذي بعد تسلّمه الحكم، حلّ مجلس النواب، ووافق على مدّ خط الأنابيب!
عام 1955 أعيد انتخاب شكري القوتلي الذي كان يميل باتجاه السوفيات، نتيجة تورّط أميركا في خلعه. ما جعل ألان دالس يرسل الى دمشق كيم روزفلت وروكي ستون اللذين دبّرا الانقلاب على مصدق عام 1953 في إيران.
أتى ستون إلى سورية ومعه 3 ملايين دولار، حيث خطط مع الأخوان المسلمين لاغتيال رئيس الاستخبارات السوري وقائد الجيش. لكن المحاولة كشفها ضباط سوريون، حيث قام الجيش باقتحام السفارة الأميركية وألقى القبض على ستون الذي اعترف بمحاولته الإطاحة بالنظام. ما كان على واشنطن إلا أن تحرّك الأسطول السادس كردّ انتقامي، وتشجع تركيا على غزو سورية بعد أن حشدت على حدودها قوات كبيرة، إلا أنّ هذه المحاولات فشلت نتيجة الموقف العربيّ الموحد، والمظاهرات الصاخبة التي اندلعت في العالم العربي ضدّ أميركا.
في العراق تخلصت واشنطن في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، من الرئيس أحمد حسن البكر، ودفعت CIAالى الواجهة صدام حسين، الذي قال عنه الأمين العام لحزب البعث آنذاك علي صالح السعدي، من انّ صدام حسين وصل على قطار CIA، حيث رأى مديرها بصدام صديقاً محتملاً لقطاع النفط الأميركي، وحاجزاً امام الثورة الإسلامية الإيرانية.
بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، قام الدبلوماسي الأميركي بريمر الذي عيّنه جورج بوش لإدارة العراق، بحلّ الجيش العراقي، والمؤسّسات الأمنية وحزب البعث، وأدخل العراق في دوامة من الفوضى والاقتتال.
أما حرب أميركا على الرئيس بشار الأسد لم تبدأ عام 2011، وإنما بدأت عام 2000، وذلك، بعد رفض الأسد مشروع مدّ أنابيب الغاز من قطر الى أوروبا مروراً بالسعودية والأردن وسورية وتركيا.
عام 2008 أعدّت مؤسسة الأبحاث والتطوير الأميركية راند Rand corporation تقريراً رأت فيه انّ السيطرة على احتياجات النفط والغاز تبقى أولوية استراتيجية للولايات المتحدة، ورأت ضرورة استخدام عمليات التدخل وتطبيق سياسة فرق تسد.
عام 2009، جدّد الأسد رفضه توقيع الاتفاق. عندها رأت CIA أنّ تمرداً سنياً يطيح بالأسد هو الطريق العملي لإنشاء الخط، حيث بدأت بتمويل جماعات المعارضة السورية قبل اندلاع «الربيع العربي».
بعد تدهور الأوضاع السورية عام 2011، وظهور الجماعات المسلحة، قام الغرب وعلى رأسه واشنطن، بتسليح «الجيش الحر»، مع ظهور مئات الميليشيات المسلّحة الى العلن، معظمها تحالف مع الميليشيات «الجهادية»، التي تلقت التدريب على يد الأميركيين، وهذا ما اعترف به ترامب اثناء حملته الانتخابية الاولى، من انّ داعش صنيعة واشنطن وعرّابها باراك أوباما وهيلاري كلينتون، بالإضافة الى الدعم المالي الكبير الذي قدّمته بعض الدول العربية للفصائل المسلحة، ولشخصيات في المعارضة، كشفت عنها في ما بعد وثائق ويكيليكس.
تريد واشنطن من الحرب في سورية، تقسيمها بين عربي وكردي، وسني، وعلوي، ودرزي. علماً انّ خريطة دولية تعود لعام 1890 لحظت أماكن الكرد في العراق وتركيا وإيران، ولم تلحظهم في سورية، إذ أنّ التمدّد الكردي الواسع داخل سورية جاء لاحقاً من العراق وتركيا.
مع ظهور داعش، رعت CIA معظم مقاتلي تنظيم الدولة الذين أتت بهم من 30 بلداً. ومن الملاحظ انّ المناطق التي احتلتها داعش، تشمل تماماً مسار خط الغاز القطري المقترح، وهو الخط الذي سيوافق عليه لا محال، النظام الجديد في دمشق.
يقول روبرت كينيدي: «علينا أن نعترف، أنّ الحرب في سورية، هي حرب السيطرة على الموارد. ولا تختلف كثيراً عن الحروب السرية السابقة التي لا تعدّ ولا تحصى حول النفط الذي نقاتل من أجله في الشرق الأوسط طوال 65 عاماً. بمجرد الاعتراف بأنّ الحرب في سورية هي من أجل النفط، تصبح السياسة الخارجية لواشنطن واضحة… إنّ كلّ تدخل من قبل الولايات المتحدة لمنع أيّ عنف أدّى الى فشل ذريع، وردّ فعل سلبي، وذلك منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم… إنّ الرابح في هذه الحرب ـ يقول كينيدي ـ شركات النفط والمرتزقة، بالإضافة الى وكالات المخابرات التي نما نفوذها على حساب حرياتنا، والجهاديين الذين استخدموا تدخلاتنا… حان الوقت لإبعاد الولايات المتحدة عن الاستعمار الجديد، وبناء الأمة ليس عن طريق غزو سورية، وإنما من خلال إنهاء الإدمان المدمّر على النفط الذي شوّه السياسة الخارجية الأميركية على مدى نصف قرن»!.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والشعوب الحرة، والأنظمة الوطنية تعاني من سياسة التدخل الأميركي السافر في شؤون دول العالم. إذ أنّ العولمة الأميركية تريد إلغاء الأنظمة الوطنية القومية التي تقف عائقاً أمام مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والاستراتيجية، وأمام هيمنتها وتسلطها على العالم، ومواقفها الداعمة للقوى الانفصالية، والتيارات الدينية السلفية المتطرفة.
إنها السياسات الأميركية القبيحة ضدّ دول المنطقة، التي سنشهد نتائجها المدمّرة قريباً، والتي ستطال بالصميم جغرافية دول عربية، ووحدة أراضيها، لتقسيمها الى دويلات عشائر وقبائل تتقاتل في ما بينها، وفق أوركسترا يديرها مايسترو الامبراطورية العظمى، التي لم تترك رصيداً لدى الشعوب الحرة، والعربية بالذات، سوى الكراهية التي لا مثيل لها.
كان على روبرت كينيدي أن لا يكتفي بالقول لماذا يرفض العرب التدخل الأميركي، بل كان عليه أن يستتبعه بالقول لماذا يكنّ العرب الكراهية الشديدة للإمبراطورية الأميركية المستبدّة، ولسياساتها اللاأخلاقية البعيدة كلّ البعد عن قيَم الإنسانية ومبادئ الثورة الأميركية!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق