هل جنّبت تركيا المنطقة حرباً مدمرة؟
ناصر قنديل
– تنتشر في الصحف والمواقع التركية سردية يبدو أنها شبه رسمية لمقتضيات ما سُمّي بالعملية القيصرية في سورية، وتقول الرواية “إن المنطقة كانت سوف تتعرض لحرب إقليمية واسعة جداً لأن “إسرائيل” كانت تنوي التدخل في سورية، وهذا التدخل سيكون الأكبر في المنطقة بعد حربها على غزة ولبنان. وفي حال دخلت القوات الإسرائيلية الى سورية فإن الإيرانيين بالضرورة سوف يزجون بالعراق للتدخل في مواجهة هذا التدخل، وهو الأمر الذي كان سيدفع تركيا إلى الشعور بقلق كبير، وبالتالي يدفعها أيضاً إلى التدخل في مواجهة “إسرائيل” متوافقة مع الإيرانيين، والروس كانوا سيستفيدون من صرف الأنظار عن أوكرانيا الأمر الذي سوف يستدعي ردات فعل أميركية، والإيرانيون كانوا سوف يقصفون في الداخل الإسرائيلي ويردون بقصف القواعد الأميركية في الخليج، وهو ما كان سيتطور الى حرب إقليمية شاملة، ولذلك جاءت هذه العملية القيصرية لتجنيب المنطقة هذه الويلات وتضمن الأمن للمنطقة بما فيها إيران وتركيا والخليج لعقود مقبلة”.
– وفقاً لهذه السردية فإن العمل العسكري المشترك لتركيا وهيئة تحرير الشام وحلفائها ضد الدولة السورية ورئيسها قام على نظرية استراتيجية وعسكرية، قوامها أن محوراً ثالثاً يتكون من تركيا والهيئة قام بسحب سورية من حضن إيران ومحور المقاومة وروسيا نسبياً لإفقاد هذا الفريق مواقع قوة تمثلها سورية، وبالتوازي إلغاء فرصة استهدافها من المحور الأميركي الإسرائيلي باعتبارها لم تعد محسوبة على المحور المقابل. والاستيلاء على سورية هنا هو إضعاف لمحور وحرمان محور مقابل من ربح زائد، يحقق التوازن بين المحورين ويقدّم المحور الثالث الذي يكون قد نقل سورية إلى عهدته، كضامن لعدم التصعيد وتحقيق الهدف وهو منع الحرب الكبرى. فهل هذه الرواية قابلة للتصديق من زاوية الفحص المنطقي، خصوصاً أن رئيس الهيئة الحاكمة في الشام والشريك في العملية قد قام بتكرارها كفلسفة لما وصفها بالحرب الخاطفة التي أمنت المنطقة لخمسين سنة؟
– من الزاوية الواقعيّة يكفي النظر لنتائج العملية لمعرفة أن المحور الأميركي الإسرائيلي حقق أرباحاً غير متخيّلة، مقابل خسائر استراتيجية للمحور المقابل، ولم يتحقق توازن بين المحورين المتقابلين لا في الأرباح ولا في الخسائر، فأسقط نظام موالٍ للمحور الخاسر ومناهض للمحور الرابح، وقطع طريق إمداد المقاومة وأُخرجت من سورية، ومثلها خرجت إيران من سورية، وضعفت روسيا في سورية إلى حد أن خروجها بات متوقعاً. وهذه كلها أرباح أميركية إسرائيلية وخسائر لمحور إيران وروسيا والمقاومة، فهل تحقق الهدف وهو تفادي الحرب التي يمكن أن تقصف خلالها القواعد الأميركية وإيران والمصالح النفطية في الخليج؟
– ليس أكيداً أن سورية كانت ساحة حرب متوقعة، وإن سلّمنا بصحة ذلك، فيبدو أن الوجهة انتقلت بعد سورية نحو اليمن، وفقاً للوقائع الحربية والتصريحات الإسرائيلية، بعدما ضمنت العملية للمحور الأميركي الإسرائيلي ربح سورية دون حرب، انتقلت جبهة الاستهداف نحو اليمن، وفي حرب اليمن خصوصاً يمكن أن يصبح استهداف القواعد الأميركية والمصالح النفطية والأساطيل في البحر الأحمر، هو مضمون الحرب. وهذا لا يزال احتمالاً وارداً ولم يُسحَب من التداول، فهل نجحت العملية بتحييد سورية عن مخاطر الأطماع الإسرائيلية؟
– عملياً، بسبب العملية صار ممكناً لـ”إسرائيل” أن تقوم بعمليات تدمير للقدرات العسكرية السورية، وسوف تضمن أن لا أحد سوف يمنعها عن فعل ما تشاء في الجغرافيا السورية مستقبلاً ولسنوات مقبلة، مع معرفتها باستحالة إعادة بناء جيش قوي في سورية، لأن الرعاية تركية والتسليح أميركي حصراً، وها هي تضمن حرية العمل كمبدأ وتتحرّك بموجبه حيث تشاء في الجغرافيا السورية، وهي تحتاج كل الهضاب والتلال في سفوح جبل الشيخ وصولاً للحدود السورية العراقية وتقاطعها مع الحدود السورية الأردنية. وبوضع اليد على هذه الجغرافيا التي تعادل مساحة الضفة الغربية سوف يتاح للقيادة الإسرائيلية التحدّث عن نصر أكيد في هذه الحرب، والتصرف مع الضفة السورية كما هو الحال مع الضفة الفلسطينية، مع فارق أن الطريق مفتوح شمالاً حتى الكانتون الكردي، والقوات الأميركية تنتشر من التنف حتى الفرات. وبالنظر لتدمر والبادية السورية يمكن لكيان الاحتلال أن يتوسّع بأكثر من خمسين ألف كيلومتر مربع، وأن يضمن التواصل الآمن والمستدام مع الميليشيات الكردية.
بالحصيلة حققت “إسرائيل” أهدافها، وسوف تستكمل التحقيق بدعم ورعاية كاملين من واشنطن، التي سوف يكون على أنقرة وحلفائها اللهاث وراءها طلباً لرفع العقوبات التي لا إمكانية لضخ المال والنفط وتشغيل الكهرباء وانطلاق الاقتصاد في سورية، أما الحرب التي تشعل الخليج والنفط فقد كانت احتمالاً ضئيلاً قبل “الحرب الخاطفة”، لكنها صارت احتمالاً وارداً بقوة أكبر بعدها.