إعادة ترتيب الإقليم والمقاومة في القلب…
د. جمال زهران*
الإقليم العربي والشرق أوسطيّ، يمرّ بحالة مخاض شديدة، ستقود إلى إعادة هيكلته، بصورة مختلفة عما هو حادث الآن، الأمر الذي يستدعي المسارعة بالتفكير الجدّي بالسعي الدؤوب لمواجهة شاملة وفي قلبها محاولة تفادي حجم الخسائر الضخم، المتوقع حدوثها باحتمالات كبيرة. فالبداية كانت في الهجوم الصهيونيّ والمستمر حتى الآن على غزة (15) شهراً متصلة، وتحويل غزة إلى مكان غير صالح للحياة، وفي الأخير، فإنّ العدو الصهيونيّ قد قام بتدمير ثم حرق مستشفى كمال عدوان، بعد قتل الأطباء وهيئات التمريض المساعدة، وحتى العمال، والمرضى، عمداً، صباح الجمعة الموافق 27 ديسمبر 2024م، في إطار المجازر وتدمير المشافي وغيرها.
وفي المقابل، صمود أسطوريّ لشعب فلسطين في غزة، وصمود أسطوريّ للمقاومة التي كبّدت العدو الصهيونيّ خسائرَ ضخمة، تتوازى مع خسائر شعب غزة البشرية والمادية، من حيث قيمتها لدى العدو. وبدأت جبهات الإسناد في جنوب لبنان، حتى تطوّرت الأمور لحرب شاملة لمدة شهرين بين حزب الله والكيان الصهيوني – المدعوم كاملاً من الاستعمار الأميركي بإداراته المختلفة (ديموقراطي/ جمهوري) ولا فرق بينهما، فكلهم موجودون في كراسيهم بإرادة الصهيونية والماسونية العالمية، وقوى الرأسمال في الغرب الاستعماري. وانتهت هذه الحرب بتوقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار، بقرار أميركي مباشر حيث أعلن بايدن بنفسه ذلك، وفرض ذلك على الكيان الصهيوني، ورئيس العصابة (النتن/ياهو)، ليلة 27 نوفمبر/ تشرين الثاني)، وهو اتفاق أعتبره مؤقتاً، لأنّ الكيان الصهيونيّ، يرفضه أصلاً، ولكن اضطر للتنفيذ بأمر أميركيّ، وبدأ من البداية حتى الآن الالتفاف عليه، حتى أنّ النتن/ياهو، يعلن أنّه لن يوافق على مهلة الـ (60) يوماً للانسحاب الكامل من نقاط احتلاله في الجنوب اللبناني، مما يجعل من الرجوع إلى استمرار القتال على الجبهة اللبنانية، أمراً محتملاً بدرجة كبيرة، ولعلّ حجم الخروقات الصهيونية التي اقتربت من الألف، خير دليل. ولكن قد تمخّض عن ذلك، توقف الجبهة اللبنانيّة عن كونها جبهة إسناد لغزة، وفقدت غزة جبهة كانت تستوعب جزءاً من الجيش الصهيوني، قدّره سماحة السيد حسن نصر الله في أولى خطبه عقب طوفان الأقصى، أنّ الجزء يصل إلى الثلث. الأمر الذي قاد إلى تكثيف الهجوم الصهيوني على غزة.
إلا أنّه بعد التطورات في سورية، تحوّل الكيان الصهيوني إلى تدمير كامل للجيش العربي السوري، والتحرّك نحو احتلال أجزاء من سورية في الجنوب (درعا وقراها)، واحتلال جبل الشيخ والقنيطرة! وهو سيشغل جزءاً من الجيش الصهيونيّ لبعض الوقت، حتى أضحت سورية جبهة مضادة لغزة ولبنان، وسيطرة صهيونيّة في مواجهة عدو سوري سابق، للأسف!
إلا أنّ الجبهة اليمنيّة اشتعلت بكثافة، بعد توقف حذر لجبهة الإسناد من المقاومة العراقية، دون معرفة الأسباب، واشترطت هذه الجبهة اليمنية توقف ضرب الكيان والأسطول الأميركي، مقابل توقف العدوان الصهيوني على غزة، وهو المستمر بلا قيود، ودون ردع حتى الآن. ورغم الهجمات الأميركية والصهيونية والبريطانية على اليمن، إلا أنّ هذا أسهم في زيادة وتكثيف الضربات اليمنية ضدّ مطار «بن غوريون»، وما حوله، في إطار قواعد الاشتباك التي يفرضها اليمني، بقوته العسكرية (المطار مقابل المطار)، وهكذا. فاليمن لم يرتدع ولن يرتدع، والكيان الصهيونيّ لم يرتدع ولن يرتدع إلا بالمقاومة والقوة العسكريّة، وفقاً لطبيعته.
ويشير الواقع، وفي ضوء الوقائع الجديدة، التي أشرت إليها، إلى أنّ إعادة الهيكلة للإقليم حتميّة، ولا سبيل إلا الاستيعاب والقفز على ما يتمّ فرضه.
فالعدو الصهيونيّ، يسعى إلى فرض أجندته، والشرق الأوسط الجديد، الذي أعلن عنه النتن/ياهو، تحت سقف الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في 27 سبتمبر/ أيلول الماضي (2024م)، أنّ هناك خريطة جديدة للشرق الأوسط ورفعها تحت القبة، وقسم الدول في الإقليم، إلى قوى الشر، وقوى داعمة للمشروع الصهيونيّ وهي «قوى الخير» بالنسبة له، ولكيانه، وللداعمين له.
فلو لم يكن هذا التصور من النتن/ياهو، قد تمّ التصديق عليه، وقبول تنفيذه من أميركا وحلفائها في أوروبا، وفي الإقليم، ما كشف عن هذا النتن/ياهو، بالصورة الفجة التي أعلنه بها، مرة تحت سقف الكونغرس الأميركي، والمرة الثانية، تحت سقف الأمم المتحدة، وظهرت هذه المنظمة، بلا إرادة على مواجهة هذا الكيان العضو المارق، الذي يستحق فصله وإسقاط عضويّته من الأمم المتحدة، وكان يستوجب على الأمين العام للأمم المتحدة، وأيضاً رئيس الجمعية العامة لهذه المنظمة، أن يرفض ما أعلنه هذا النتن/ياهو، تحت قبة الجمعية العامة باعتبار أن ذلك إعلان بالعدوان والهجوم والحرب، رسمياً!
والسؤال الذي يفرض نفسه، في مقابل ما يسعى إليه هذا النتن/ياهو، ومشروعه الاستعماريّ الجديد المدعوم أميركيّاً وأوروبيّاً، بل وإقليمياً، هو: هل هناك مَن سيتصدّى له دولياً وإقليمياً، وموقع المقاومة في قلب ما هو آتٍ حتماً؟
فالمشهد الحالي، هو خسارة كبيرة لمحور المقاومة، بخروج سورية وحياد العراق، وخروج ساحة الجنوب لدعم غزة، وفي المقابل كسب ساحة المقاومة التي نعوّل عليها كثيراً، في اليمن، فضلاً عن استمرار الصمود في غزة وفي الضفة التي تشتعل ببطء وحذر وتردّد. فضلاً عن إيران، الراعي الرسمي لمحور المقاومة، يُعيد تقييم الموقف، والخطاب الرسميّ يتركز في أنّ مفاجآت قريبة ستقع في المنطقة. لكن الحق يُعلن بأعلى صوته بأنّ المقاومة قد خسرت بعض الشيء، ولكنها لم تنهزم، ولا تزال محتفظة بقوتها، وحيويتها. ولعلّ قوتها في استمرارها كوجود، واستمرار فعاليتها، مع تغيّر الساحات، وإلى حين، بطبيعة الحال. فقد تخسر المقاومة، بعض المواجهات هنا أو هناك، ولكنها لا تنهزم، ولن تنهزم، بل ستنتصر. فالأفكار لا تموت، والمقاومة كفكرة لا تموت، ولن تموت، وستظلّ الفكرة حتى تحقيق الأهداف النهائيّة.
كما أنّ المقاومة كوجود، وتجسيد لإرادة الفكرة، هي التي تخسر في المواجهات، بعضها وليست جميعها، وفي النهاية تنتصر. والذي يؤكد ذلك انتصار جميع حركات المقاومة في العالم، ومن الشرق إلى الغرب. وإنْ تراجعت المقاومة في الميدان، فلأسباب تكتيكيّة، ومؤقتة، لكن الاستراتيجيّة، تجعل من المقاومة إلا أن تتقدم بعد حين.
فالمقاومة في الميدان، شأن كلّ ما هو عسكري، تلتزم بنظريّة «الكر والفر»، أو «التقدم والتراجع»، وهي محكومة بـ «المد والجزر»، حتى تنتصر، وهو المؤكد. ومن يشكك في هذه المقولة، فلينظر في تجارب المقاومة الكبرى (فيتنام: 1965 – 1973م)، والجزائر (1954- 1962م)، وجنوب أفريقيا، حتى التسعينيات من القرن الماضي لم تكن قد تحرّرت إلا بالمقاومة الشاملة، حتى انحنى الاستعمار الأبيض، الأوروبيّ الأميركيّ!
ولا شك في أنّ المقاومة، قد أشرفت على النصر الشامل، وتدمير الكيان الصهيونيّ كاملاً ومن الوجود، لو استخدمت الصواريخ الكبرى، وكتبت عدة مقالات هنا، عدّدت فيها الأسباب تحت عنوان: «اليوم.. وليس غداً»، ولكن للميدان مجاله، ومعلوماته، وتقديرات العاملين فيه. ولذلك أرى أنه قد تأجّلت لحظة إعلان نصر المقاومة، وإلى حين، ولكنها لم تنهزم، ولم تنتصر حتى الآن كاملاً، وسط خسائر وإنْ بدت كبرى، فهي صغرى ومحدودة. وفي السياق العام للمقاومة، ومقارنة بحجم الخسائر الضخمة التي تكبّدها العدو الصهيونيّ. ويكفي للتدليل على ذلك، حالة الرعب التي يعيش فيها الصهيونيّ داخل الكيان، على كافة المستويات، وهي حالة غير مسبوقة، الأمر الذي يجعل المقاومة واثقة في النصر، الذي نراه قد اقترب وإنْ تأجل بعض الوقت.
ولذلك، فإنّ الإقليم الذي يغلي من الاشتعال، في طريقه إلى إعادة الهيكلة وإعادة الترتيب، وقد تسقط أنظمة وتتبدّل، لكن المقاومة سيزداد اشتعالها بعد ترتيب الأوراق والاستعداد لما هو آتٍ.
*أستاذ العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية