مكوّنات وطنية لا أقليات…!
د. عدنان منصور*
كم هو مستفزّ في كلّ مرة عند ذكر طائفة ما، أو قومية ما، تعيش في بلد من البلدان، عددها قليل نسبياً عن عدد باقي الطوائف أو القوميات، يُشار إليها من قبل الحكام، والمسؤولين، والسياسيين، والإعلاميين، والأكاديميين يطلقون عليها صفة «الأقليّات». هذه العبارة المتداولة باستمرار تشكل ولا شكّ استخفافاً وانتقاصاً معنوياً من أبناء المكون الوطني للبلد الواحد، لأنّ صفة «الأقليات» التي تُطلق عادة على مكون قومي، أو طائفي، أو عرقي، تنطلق من مفهوم واحد يرتبط بعدد أبناء الطائفة أو القومية الذي هو عادة، أقلّ من عدد باقي مكوّنات المجتمع داخل الوطن.
عندما يثري مكوّن وطنيّ بلده، ويُبدع في مختلف المجالات السياسية، والإنسانية، والفكرية والعلمية، والمعرفية، والاقتصادية والصناعية، ويصبح في ما بعد ركيزة أساسيّة في نهضة بلده وتقدّمه، وتطوّره. فكيف يمكن لنا بعد ذلك النظر إلى هذا المكوّن من زاوية العدد ونطلق عليه صفة الأقليّة، وكأنّ مكانته ودوره، وأداءه، ومرتبته دون سائر مكوّنات الوطن؟!
لماذا لا نطلق في أدبيّاتنا السياسية والوطنية، ومنتدياتنا الثقافية، والفكرية، والاجتماعية، عبارة المكوّنات الوطنية على سائر مكوّنات المجتمع، ونقلع نهائيّاً عن استخدام عبارة الأقليّات؟! هنا نتساءل: ألا يضمّ جسم المجتمع مكوّنات عديدة، كما مكوّنات جسم الإنسان الذي يضمّ أعضاء مختلفة، كلّ عضو يؤدّي دوره على أكمل وجه، متناغماً مع سائر الأعضاء. هل الأعضاء في جسم الإنسان أقليّة؟! هل العينان أو القلب، أو الكليتان أقليّة؟! هل الرئة أقليّة؟! هل اليدان أقليّة؟! أليس لكلّ عضو دور مهمّ في الجسم الواحد، وجزء لا يتجزأ منه؟!
عندما يقوم مكوّن ما بدوره الوطني والاجتماعي، والإنساني، لا يقلّ عن دور الآخرين أو قد يبزهم، عندها لا يمكن النظر إليه، نظرة عدديّة، أو هامشيّة، أو دونيّة، ووصفه بالأقليّات، فهو له حقوق مثل الآخرين لا تزيد ولا تنقص. إنّ وصفه بالأقلية هذا يعني أنه مهمّش عن الآخرين، وأنّ له حقوقاً لم يحصل عليها بسبب التمييز العرقي أو الطائفي، أو القومي، أو التقصير والإهمال المتعمّد في التعامل معه دون سائر أبناء المكوّنات الوطنية الأخرى.
عندما تطبّق القوانين بحرفيّتها نصاً وروحاً على مجتمع وطني ما، دون انحياز أو تمييز، لن يعود هناك عندئذ من مجال للحديث عن «أقليات»، وقوميات، وطوائف، وحقوقها، طالما أنّ الجميع سيصبحون سواسية وتحت سقف القانون، لا فرق بين مكوّن ومكوّن آخر بسبب العرق، أو الدين، أو اللون، أو القومية، أو الطائفة!
يطفو على السطح الحديث عن الأقليّات، عندما يستأثر مكوّن ما في الوطن الواحد مهما كان عدده، بالحكم والسلطة، والمال، والامتيازات، على حساب باقي المكوّنات الوطنيّة الأخرى، دون الاكثراث بحقوقها المشروعة، وعدم التعامل معها على قدم المساواة بين جميع أبناء الوطن الواحد. هذا الاستئثار غالباً ما يكون السبب المباشر في تعميق الفوارق بين المكوّنات الوطنيّة، ما يؤجّج في ما بعد، ويحرّك نزعة القوميات والطوائف لتطالب بحقوقها المشروعة، وفي أحيان كثيرة دفعها إلى الانفصال لإنشاء كيان خاص بها.
إنّها المكوّنات الوطنية، أو «الأقليّات» في مفهوم الإمبراطورية الأميركية – الإسرائيلية المشتركة، التي اشتغلت عليها، وحققت إنجازات كبيرة في تفكيك بلدان عديدة في الشرق الأوسط الكبير، منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إلى حين أصبحت الصورة سوداء بعد تفكيك وحدة الدولة، والشعب، والأرض… للعراق، وسورية،
وليبيا، والسودان، واليمن. وحدة أصبحت من الماضي، ولن تعود حتى إشعار آخر، كما كانت من قبل. هناك دول أخرى في العالمين العربي والإسلامي، في دائرة الاستهداف للامبراطوريّة، وما تحضّره من سياسات مدمّرة تركّز على «الأقليّات» الطائفية، والقومية، والعرقية، في المغرب، وتونس، والجزائر، ومصر، والمملكة العربية السعودية، وإيران، وتركيا وأفغانستان، وباكستان.
الإمبراطورية المشتركة، جعلت من المكوّنات الوطنيّة
(الأقليّات)، وقوداً تحقق من خلالها السيطرة الكاملة على مصادر الطاقة، والثروات، وجعل الشرق الأوسط الكبير تحت سيطرتها الكاملة ولفترة طويلة لا أحد يعرف مداها.
متى يعي قادة العالمين العربي والإسلامي ما ينتظرهم، وينتظر بلدانهم على يد الامبراطورية؟!
لسنا وحدنا في العالم العربيّ الذي يضمّ داخل أوطانه مكوّنات وطنية من مختلف الأجناس والألوان. هناك دول عديدة في العالم صهرت داخل أوطانها العديد من القوميّات والأعراق والطوائف. كأستراليا، وكندا، والولايات المتحدة، وفرنسا وبريطانيا، وألمانيا وغيرها، فلماذا لا يتحدّث المسؤولون هناك عن «أقليّاتهم» في بلادهم حيث فيها الصينية والكورية والهندية، والمكسيكية، الأوروبية، وغيرها!
لطالما أنّ القوانين الوضعيّة تصون المكوّنات الوطنيّة في هذه البلدان، والجميع تحت سقف القانون والعدالة، لا تمييز بين مواطن وآخر بسبب العرق او اللون، او الدين او القومية، عندها لا مكان، ولا مجال للحديث عن «الأقليّات»، طالما أنّ هذه المكونات الوطنية تصبح جزءاً لا يتجزأ من جسم الوطن الواحد.
من البديهي أن تنمو أدبيات «الأقليّات»، في تربة الأنظمة الدكتاتورية، والعائلية، والدينية، والإقطاعية، لكن لا يمكن القبول بأيّ شكل من الأشكال، باستئثار مكوّن واحد بالسلطة، أياً كان حجمه وتأثيره، أكان مكوّناً قومياً، أو طائفياً، أو حزبياً، أو عائلياً، ويتجاهل حقوق باقي مكوّنات الوطن الواحد. هذا الاستئثار يؤدي على المدى المتوسط والبعيد، إلى إدخال البلد في صراعات داخلية، وانقسامات عمودية، تطيح بنيان الوطن، وتقوّض وحدة شعبه وأرضه.
تركيز الحديث عن «الأقليّات» هو ظاهرة مرضية خطيرة، ناجم عن التهميش والقهر، والظلم، والاستبداد، والإهمال المتعمّد من قبل القابضين بشراسة على مقاليد الحكم والسلطة.
فلنقلع عن استخدام كلمة «الأقليّات»، ولنستخدم في أدبياتنا عبارة المكوّن الوطنيّ، تجنباً لحساسية الكلمة وخلفياتها، ولندافع عن هذه المكوّنات الوطنيّة وعن حقوقها المشروعة، بما يليق بكلّ مواطن يؤدّي دوره الوطنيّ بكلّ شرف وأمانة في خدمة بلده، ويطمح في العيش في كنف دولة تتميّز بالعدل، والمساواة، لا دولة يسودها الاستبداد والقهر والتمييز العنصري!
إلى القابضين على الحكم والسلطة، وإلى السياسيين، والإعلاميين في العالم العربي، دافعوا بكل قوة عن مكوّنات الوطن الواحد، وتوقفوا عن تهميش المكونات الوطنية، لأنكم بذلك توقدون نار الفتنة التي تحرق بلدانكم، وتفتت نسيج شعوبكم.
إنّ صون حقوق المكوّنات الوطنيّة، كفيل بأن يحصن بلداننا ضدّ أيّ خطر مستقبليّ يهدّد وحدتها، وسيادتها، واستقرارها وسلامة أراضيها، لأنّ الامبراطورية الأميركية ـ «الإسرائيلية المشتركة لن تستكين، ولن تتوقف عن تنفيذ مخططها المرسوم منذ 42 عاماً الرامي إلى تحريض «الأقليّات» وتأليبها بغية تقسيم بلادنا، وتطبيق نموذج «ملوك الطوائف»، الذي كان سائداً في الأندلس قبل سقوطها الذي كان حتمياً.
يا زعماء العالم العربي، مخطط الامبراطوريّة لتقسيم بلدانكم يسير على قدم وساق، يقترب من أبواب قصوركم، فما أنتم فاعلون…؟!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق