لماذا المقاومة…؟
زياد حافظ*
طرح سؤال “لماذا المقاومة” أمر ضروري في هذه الظروف التي يمرّ بها الوطن العربي المحكوم من أنظمة تعتبر أنّ مقاومة الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين ولسورية ولأجزاء من لبنان غير مجدية ومتناقضة مع مصالح نخبها الحاكمة أو أنها مسألة يمكن فضّها بالتفاوض ووفق قرارات الأمم المتحدة. في رأينا، نعتقد أنّ التساكن مع الكيان الصهيوني أمر مستحيل بسبب طبيعة الكيان وما يمثّله. فالتناقض معه ليس صراعاً سياسياً، أو اقتصادياً، أو عسكرياً، أو ثقافياً، أو قيمياً، بل هو صراع وجوديّ بكلّ معنى الكلمة.
هذه الحقيقة يعتبرها من هم جيلنا من المسلّمات والبديهيات، بينما هناك فئات عديدة لا ذاكرة لها لتاريخ تكوين الكيان وتاريخ الصراع ولا تريد أن تستذكر ذلك التاريخ، وتعتبر أنّ بإمكانها التساكن مع ذلك الكيان وإنْ تطلّب بعض “التضحيات” من أجل “السلام” ولتحقيق التنمية والرفاهية. فتلك الفئات لا تعلم أو لا تريد أن تعلم طبيعة المشروع الصهيوني الاستعماري الذي لم ولن يقبل بوجود في المنطقة غير وجوده هو، وأنّ “الآخر” في الحدّ الأدنى يمكن استعباده لخدمته أو في الحدّ الأقصى إلغاؤه بكلّ أبعاد معنى الإلغاء.
فتلك الفئات لا تعتبر أنّ الصراع مع الكيان يعنيها، بل تركّز جهودها وخطابها على “بناء الدولة” ونشر “الحرّيات” و”الديمقراطية” والتماهي مع الغرب الذي “يحمل تلك القيم”! وتعتقد بكلّ سذاجة أنّ الغرب سيسمح ببناء تلك الدولة التي تحلم بها. فهي لم تأخذ بالتجارب لبناء دولة وطنيّة مستقلّة الإرادة في السياسة والاقتصاد كتجربة مصر، والعراق، وسورية، والجزائر والتي استطاع الغرب والكيان الصهيونيّ تدميرها أو إعاقتها. وتلك الفئات تجهل أنّ النهضة العربية التي بدأت كردّة فعل لغزوة بونابرت للمشرق العربي في 1799 كانت مبنية على مقاومة الاحتلال في شمال أفريقيا التي استمرّت حتى دحر المستعمر وعلى مقاومة الاستبداد في المشرق العربي. لسنا هنا في إطار استذكار التاريخ وإنْ كان ضرورة لمعركة بثّ الوعي في تلك الفئات. فلا نهضة ولا تحرّر بالتراضي، بل بالمقاومة بكافة أشكالها.
وكذلك الأمر بالنسبة للذين يتعاطفون مع جماعات التعصّب والغلو والتوحّش في اعتقادهم بأنّ الأولويّة هي إعادة إقامة الدولة الإسلامية قبل أيّ اعتبار آخر بما فيه مواجهة المشروع الصهيوني. فذلك المشروع يستغلّ السذاجة السياسية السائدة عند هؤلاء حول إمكانية إقامة دولة إسلامية قوية مستقلّة القرار السياسي والاقتصادي. فالكيان الصهيوني والغرب معه يريدان إقامة كيانات متصارعة على أسس دينية ومذهبية وعرقية دون تمكين إقامة دولة مركزية قوية سواء كانت “علمانية” أو دينية. والعقل الاستشراقيّ في الغرب يعتقد أنّ الإسلام متخلّف ولا يمكن أن يرتقي إلى مستوى الحضارة الغربية إلاّ إذا تخلّى المسلمون عن دينهم. فكيف يمكن للتحالف الصهيوغربي أن يقبل بإقامة دولة إسلامية قوية تستطيع أن تهدّد مصالحهما. وفي المقابل هل سيقبل المسلمون بدولة ضعيفة تابعة للحلف الصهيوغربي الذي يناهض موروثهم القيمي والثقافي؟
ما يجب أن يترسّخ في الوعي العربيّ أن الكلام عن إقامة دولة وطنية سواء كانت موروثة من الحقبة الاستعمارية أو تحاول تجاوز الحدود التي فرضها المستعمر الغربيّ، فإن الكيان الصهيوني لن يسمح بإقامتها لأن طموحاته التي لا يُخفيها هي إقامة دولة الكيان الكبير الذي يشمل المشرق العربي بأكمله حتى الفرات وأجزاء من الجزيرة العربية ومصر وصولاً إلى النيل. فهو نقيض مشروع سايكس بيكو الذي أوجد وفرض على المجتمعات العربية لتبرير وجود الكيان. فالأخير، يتجاوز سايكس بيكو ويعتبر أنه في مرحلة ترسيخ دولته الكبرى على أنقاض سايكس بيكو. فهل دول سايكس بيكو ستقبل بإزالتها لصالح الكيان؟ فإذا لا، كيف تكون المواجهة إلاّ عبر المقاومة بعد فشل المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة في تطبيق قراراتها بحق الشعوب العربية؟ المواجهة لن تكون إلاّ بالمقاومة على كافة الأصعدة، مسلّحة، وسياسية، وقانونية، وإعلامية، وثقافية.
والمشروع الصهيوني لا يستثني شمال أفريقيا. فهو يعمل بشكل حثيث على نشر الفوضى في ليبيا، كما يستهدف الجزائر وحتى المغرب المطبّع معه. وبطبيعة الحال الجائزة الكبرى هي مصر التي عقدت اتفاق سلام مع الكيان وخرجت من دائرة الصراع معه. فرغم ذلك فإنّ مصر مستهدفة بشكل مباشر من قبل الكيان. للمعلومة، موقع سفارة الكيان في القاهرة هو في الضفة الغربية من نهر النيل لأنّ الضفة الشرقية يعتبرها الكيان أرضاً يهودية! فهل هذا الواقع سيدفع الدولة العميقة وخاصة المؤسسة العسكرية في مصر إلى مراجعة التزاماتها التي قطعتها مع الغرب والكيان؟ أما بالنسبة للجزائر التي ما زالت في مرحلة التعافي من العشرية الدامية فعلى نخبها الحاكمة أن تعي خطر التفتيت الذي ترسمه المخابرات الفرنسية والصهيونية. فرنسا لن تنسى خروجها من الجزائر والآن من عدد من دول أفريقيا الغربية. فما زالت النفسية الاستعمارية قائمة وبالتالي ستعمل مع الكيان للانتقام من الجزائر.
واقع الأقطار العربية التي أنشأها المستعمر بعد الحرب العالمية الأولى والثانية مستهدفة بمزيد من التفتيت والتمزيق لأنّ الكيان يخشى أي مشروع نهضوي عربي وإنْ كان قطرياً فحسب، فما بال مشروع عربي شامل؟ والتطوّر التكنولوجي الذي أبداه اليمن يرعب الكيان والغرب المستعمر، وبالتالي استهداف اليمن هو هدف استراتيجي للغرب والكيان. لكن خطر التفتيت يأتي في سياق تغيير كبير لموازين القوّة في العالم حيث الغرب، ومعه الكيان الصهيوني، في حال تراجع استراتيجي من الصعب (كي لا نقول من المستحيل) تعديل مساره. لكن رغم ضعف موازين القوّة التي كانت لصالح التحالف الصهيوغربي إلاّ أنه يخوض معاركه الأخيرة يعتقد من خلالها تأخير استحقاق التحرّر لكن لن يلغيه. وحتمية التحرّر العربي سواء كان على الصعيد القطري أو القومي فهو رهن مقاومة واضحة لمخططات ذلك التحالف ما يؤكّد أنّ المقاومة ضرورة للبقاء وللتحرّر من قبضة الاستعمار والهيمنة الغربية ولتحرير الأراضي العربية المحتلّة.
وتأكيداً أنه لا يمكن الوثوق بالكيان الصهيوني هو ما أقدم عليه من تدمير كلّ القدرات العسكرية لسورية وبعد سقوط نظام الأسد ودون أن يستجلب أي ردّة فعل من رعاته في الغرب. فمن الواضح أنّ المطلوب أن تكون سورية ضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، وبالتالي يقدم الكيان على احتلال أجزاء من سورية دون أيضاً أن نرى أيّ ردّة فعل لا من الأمم المتحدة ولا من الدول الغربية. أما في لبنان فبعد الاتفاق على إيقاف العمليات العسكرية قام العدو بالتقدّم نحو قرى في الجنوب اللبناني كما استمرّ في قصف الجنوب والبقاع وذلك دون أن يستطيع الجيش اللبناني أن يدافع. فمن الواضح أنّ النخب الحاكمة في لبنان بـ “التفاهم” مع الغرب لن تقدم على تمكين الجيش اللبناني من الدفاع عن الأراضي اللبنانية. فهذه الأحداث تؤكّد أن وجود المقاومة ضرورة وأنّ الالتفاف حولها ضرورة أكبر وأن خيار المواجهة لا بدّ منه ليس كرغبة، ولكن لأنّ سلوك العدو يفرض ذلك. فالأصوات في لبنان وفي الدول العربية التي تدعو إلى نزع السلاح من المقاومة تقول إنها موافقة على احتلال الأرض من قبل الكيان الصهيوني. وهذا بات واضحاً في كل من لبنان وسورية.
المقاومة هي السبيل الوحيد للبقاء طالما الدولة القطرية الناتجة عن إفرازات الحقبة الاستعمارية لن يكون باستطاعتها الدفاع عن الوطن مهما صغر أو كبر حجمه. والدولة القطرية لم ولن يُسمَح لها أن تبني قدرات دفاعية ضد المطامع الصهيونية والغربية وإذا اقتضى الأمر فيتمّ إلغاء القطر. والدليل على ذلك هو تدمير الجيش العراقي وتدمير الجيش العربي السوري ومنع تسليح الجيش اللبناني. وإلغاء القطر هو تمهيد لإلغاء الشعوب وهذا ما تدعو إليه قيادات الكيان الصهيوني دون أي خجل أو حرج وبموافقة من الغرب. هذا يعني أنّ الأمن المشترك في غرب آسيا، أيّ منطقة المشرق العربي، وأيضاً المغرب العربي والقرن الأفريقي ودول وادي النيل لن يتحقق بوجود الكيان الصهيوني. الأمن لا يتجزّأ ووجود الكيان يعني أن هناك مستويان من الأمن الأول لصالح الكيان والثاني مشترك بين الدول في المنطقة. غير أن وحدة الأمن تعني انه لا مكان للكيان في كل تلك الترتيبات.
يبقى السؤال المركزي وهو لماذا المقاومة من أجل فلسطين؟ الإجابة على مَن يطرح سؤال كهذا هي دعوته إلى قراءة تاريخ تكوين الكيان الصهيوني وطبيعته ودوره الوظيفي. لكن ما يهمّنا هو التركيز على أن حق أهلنا في أرض فلسطين هو كحقّنا في أرضنا سواء في لبنان، أو سورية، أو العراق، أو مصر، أو الجزائر، أو أي قطر عربي. فمن يتنازل عن هذا المبدأ يسقط حقّه في أرضه. فاللبناني الذي يقول إنه ليس معنياً بفلسطين يقبل تلقائياً أن يكون الكيان الصهيوني متربّصاً بأرض لبنان. كما أن توطين الفلسطينيين يصبح أمراً واقعاً ويخلّ في التوازن السكّاني اللبناني، أيّ ضدّ مصلحة من يقول إنه ليس معنياً بفلسطين.
لذلك تصبح المقاومة قدراً وخياراً في آن واحد. والمقاومة تكون على عدّة مستويات، لكن في المباشر المقاومة هي التصدّي للقدرات البشرية للعدو ولقدراته المادية. استنزاف العدو بشرياً ومادياً هو أساس استراتيجية المقاومة. الهدف هو جعل الكيان الصهيوني وأيّ كيان محتلّ أن يصل إلى قناعة أن كلفة الاحتلال أكثر مما يستطيع أن يتحمّله. أما بالنسبة للشعوب فكلفة المقاومة أقل بكثير من كلفة الاحتلال الصهيوأميركي والتركي خاصة بعد أن أفصح ذلك الاحتلال عن أهدافه ونظرته لشعوب المنطقة.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي