الدبلوماسية الأميركية والاستعصاء اللبناني
ناصر قنديل
– منذ انطلاقة المقاومة بعد العام 1982 وتصدر حركة أمل المشهد الجنوبي، وواشنطن تبحث عن سبيل للتخلص من هذه المقاومة مرة بالترغيب ومرة بالترهيب ومرات بالحصار، وكانت حتى تاريخ ظهور حزب الله كقيادة جديدة للمقاومة بعد اتفاق الطائف تصطدم بأن زعامة الرئيس نبيه بري نجحت في الجمع بين قيادتها للمقاومة من جهة، وقيادتها لمشاركة الطائفة الشيعية في معادلة الدولة اللبنانية بعد عقود من الحرمان والتهميش والإقصاء، بحيث صار تحجيم المقاومة مرادفاً لتحجيم الطائفة وإقصائها وهو مشروع حرب أهلية لا يمكن لأحد الفوز بها. وقد كانت تجربة انتفاضة السادس من شباط عام 1984 التي قادها بري رداً على مشروع الحرب الأهلية التي قادها الرئيس أمين الجميل لتثبيت المشروع الأميركي وتثبيت اتفاق 17 أيار، وكانت مناطق الجبل والضاحية وبيروت مسرحاً لها، فرصة ليكتشف الأميركي أن الحرب الأهلية وصفة لتفكك الجيش والدولة حتى لو تمّت رعايتهما في الكنف الأميركي كما كان الحال يومها.
– منذ ظهور الشهيد السيد حسن نصرالله قائداً للمقاومة وتبلور تفاهم عميق بين حزب الله وحركة أمل على شراكة كاملة، في المقاومة وإدارة الدولة، يقود المشاركة السياسية داخل الدولة الرئيس بري، ويدير المقاومة فيها السيد نصرالله، حاول الأميركيون سبيلاً آخر هو الرهان على استمالة أمل وبري وحصر المواجهة مع حزب الله، فكانت النتيجة أن نجح ثنائي بري نصرالله في توظيف هذا الرهان لصالح تقاسم أدوار في إدارة المعركة فيتوهّم الأميركي أنه يحقق تقدماً في فك العلاقة بين الشريكين ثم يكتشف متأخراً أنهما أكثر تماسكاً. وخلال حرب تموز 2006 كان السيد نصرالله يقود مقاومة حزب الله وأمل معاً، وكان بري يقود المفاوضات، ولوهلة توهّم الأميركيون أنهم اتفقوا مع بري على دخول الجيش الى الجنوب من وراء ظهر حزب الله ورغماً عنه، ليكتشفوا أن الصيغة تم إعدادها مسبقاً في تقاسم أدوار بين بري ونصرالله.
– بذل الأميركيون بعد حرب تموز 2006 جهوداً ضخمة ووظفوا أموالاً طائلة، لإنتاج معارضة في الطائفة الشيعيّة لوحدة ثنائي أمل وحزب الله، ثم راهنوا مراراً على النجاح باختراق لوائح الثنائي في الانتخابات النيابية ولو بمقعد واحد، لكن الحصيلة بقيت دائماً أن استنخاب مقعد شيعي خارج الثنائي قد يحدث بتصويت من إحدى الطوائف الأخرى، بحيث يبقى مطعوناً بشرعيته الطائفية سواء جاء في كنف دعم سني أو مسيحي، ينظر له في الطائفة كسفير لطائفة أخرى لدى طائفته. واستمرّت المحاولات بعد ذلك طويلاً لكنها باءت بالفشل.
– في حرب الطوفان وجبهة الإسناد، اضطر الأميركي أمام تماسك الثنائي ووجود تيار شعبي جارف مساند لمواقفه، إلى التسليم لمرحلة غير قصيرة بأن طريق وقف النار في لبنان يمرّ من غزة، حتى أن الرئيس الأميركي جو بايدن ردّد ذلك مراراً، وعندما قرّرت واشنطن وتل أبيب الانتقال الى حرب الضربة القاضية عبر تفعيل الحزمة القاتلة بوجه حزب الله، من تفجيرات البيجر واللاسلكي إلى القصف التدميري في الجنوب والضاحية والبقاع وصولاً إلى اغتيال القادة وتتويجاً باغتيال السيد حسن نصرالله، فوجئت بالتموضع السريع للثنائي وراء شعار وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 وإعلان الانتقال من طرف حزب الله من حرب الإسناد إلى حرب الدفاع عن لبنان، وبالتوازي فوجئت بالصمود الأسطوريّ للشعب والمقاومة في مواجهة حرب الضربة القاضية، حتى اضطرت واشنطن وتل أبيب إلى السير باتفاق وقف إطلاق النار تحت سقف القرار 1701، الذي تحاول تل أبيب بتغطية واشنطن استثمار مهلة الستين يوماً التي يمنحها حتى تحقيق الانسحاب الشامل للاحتلال من جنوب لبنان، لفرض صورة المنتصر على المقاومة. وهي تصل اليوم إلى استعصاء قوامه الاختيار بين المضي في نسف الاتفاق والعودة إلى مواجهة برية خاسرة سلفاً مع المقاومة التي استثمرت على المهلة لإعادة ترميم صفوفها والاستعداد لجولة مقبلة. وعودة المواجهة سوف تمحو ما رسم من صورة الأيام الستين من تصدّر جيش الاحتلال للصورة، أو العودة الى الحرب بكل ما فيها من مخاطر دون خريطة طريق للأهداف وكيفية تحقيقها، أو الاعتراف بالفشل مجدداً والعودة إلى الاتفاق.
– في الملفّ الداخلي حاولت واشنطن الدخول على خط الملف الرئاسيّ لتظهير صورة معادلة سياسية جديدة تظهر المقاومة في موقع الخاسر، فوجدت أن التمهيد الاستباقي الذي قدّمه الرئيس بري لربط وقف النار والقرار 1701 بالدعوة لرئيس توافقي، طلباً لتحقيق وحدة وطنية في مواجهة العدوان، وتأييد حزب الله لحراك برّي، يمثل ضربة استباقية قطعت الطريق على أي تحرّك أميركي لإحراج الثنائي رئاسياً وإظهاره خاسراً بخسارة مرشحه، وصعوبة توفير النصاب اللازم لانتخابه. ونجحت إدارة الرئيس بري للملف الرئاسي بإعادة إنتاج مكانة بيضة القبان لصالح الثنائي في الاستحقاق، بصورة تحرم خصوم المقاومة من فرصة القول إن الرئاسة تغيّرت اتجاهاتها لأن موازين القوى بين المقاومة والاحتلال تغيّرت، وإن المقاومة خسرت رئاسياً لأنها خسرت الحرب، وإذا كان لا بد من تفاوض خارجي لإنجاح الاستحقاق فإن بري هو المفاوض اللبناني، وإذا كان المطلوب رئيساً صنع في لبنان فإن العجين اللبناني له خباز واحد هو نبيه بري.