عربيات ودوليات

ما السرّ وراء اهتمام ترامب بغرينلاند؟

بدلاً من التبجح باستخدام القوة العسكرية، ينبغي لترامب أن يبدأ محادثات مع حكومتي الدنمارك وغرينلاند والتخلّي عن سياسة “أنا أفوز وأنت تخسر”.

ماثيو بوروز – ناشيونال إنترست

 

تصاعد الغضب الإعلامي إزاء الرئيس المنتخب الذي خاض حملته الانتخابيّة ضد الحرب ولم يستبعد استخدام القوة العسكرية للحصول على غرينلاند (وقناة بنما). لكن الإعلام يغفل البعد الاستراتيجي المتنامي للقطب الشماليّ والتقدّم الذي أحرزته روسيا والصين في تأكيد مطالبهما.
إن غرينلاند غنيّة بالرواسب المعدنية، وموقعها الجغرافي يجعل السيطرة على غرينلاند والقطب الشمالي أمراً بالغ الأهمية لفرض القوة، ومراقبة المنافسين، وتأمين طرق الشحن.
يرى معظم مشاهدي الموسم الثاني من برنامج “عرض ترامب” أن التحريض على الحرب من جانب الرئيس المنتخب مجرد جانب آخر من شخصيته المتبجّحة وليس شيئاً يجب أخذه على محمل الجد. وهذا يتجاهل الآثار المهمة لطموحات ترامب.
إن تغير المناخ، الذي ندّد به ترامب باعتباره خدعة، يذيب القمم الجليدية في القطب الشمالي، مما قد يكشف عن رواسب المواد الخام التي لم يكن من الممكن الوصول إليها من قبل. وموقع غرينلاند الاستراتيجي واحتياطياتها الغنية من المواد الخام، بما في ذلك النفط والغاز والزنك والنحاس والبلاتين والأتربة النادرة، يجعلها حاسمة في منطقة القطب الشمالي.
وبحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية، تحتوي المنطقة على ما يقدر بنحو 13% من النفط غير المكتشف في العالم و30% من الغاز الطبيعي غير المكتشف. كما تقدر هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أن غرينلاند لديها 1.5 مليون طن من احتياطيات العناصر الأرضية النادرة، وهو ما يقرب من 1.8 مليون طن في الولايات المتحدة. ومع ذلك، تتصدر الصين بـ 44 مليون طن من الرواسب ويمكن أن تستخدمها كوسيلة ضغط في حرب تجارية. وفي ضوء تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركيّة على الصين، أصبحت رواسب المعادن النادرة في غرينلاند ذات أهمية متزايدة.
إن قرب غرينلاند من طرق الشحن في القطب الشمالي يعني أنها قد تلعب دوراً رئيسياً في إدارة وتأمين ومراقبة هذه المسارات التجارية الجديدة؛ الممرّ الشمالي الشرقي، المعروف باسم طريق البحر الشمالي، هو طريق شحن على طول ساحل القطب الشمالي في روسيا ويربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ. ويكتسب هذا الطريق أهمية أكبر بسبب ذوبان الجليد في القطب الشمالي، مما يخلق طرقاً قابلة للاستخدام بشكل دائم يمكنها تقليل أوقات النقل والتكاليف بين أوروبا وآسيا.
إن الديناميكيات الجيوسياسية التي تشمل غرينلاند وروسيا والصين والولايات المتحدة سوف تؤثر على مستقبل التجارة العالميّة والعلاقات الدوليّة ليس فقط في الشمال العالي، ولكن في اللعب الأوسع نطاقاً لتحقيق الميزة العالمية بين القوى العظمى الثلاث.
تقع غرينلاند على حدود فجوة جيوك، وهي نقطة اختناق بحرية رئيسية بين غرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة، والتي كانت تخضع للمراقبة عن كثب خلال الحرب الباردة. ومؤخراً، زادت روسيا من دوريات الغواصات والتدريبات هناك. وتدرك موسكو المخاطر الاقتصادية والاستراتيجية وإمكانات هذه التغييرات الخطيرة، وتعمل على توسيع وجودها بشكل كبير في الشمال كجزء من استراتيجية القطب الشمالي.
وفي 26 أكتوبر 2020، تبنّى الرئيس الروسي بوتين رسمياً “استراتيجية تطوير المنطقة القطبية الشمالية للاتحاد الروسيّ وتوفير الأمن القوميّ للفترة حتى عام 2035”. ولسنوات، أعطت روسيا، التي تقع أراضيها الرئيسية الشرقية على بعد 55 ميلاً فقط عبر مضيق بيرينغ من ساحل ألاسكا، الأولويّة لتوسيع الوجود في القطب الشمالي من خلال تجديد المطارات وإضافة القواعد وتدريب القوات وتطوير شبكة من أنظمة الدفاع العسكريّ على الحدود الشماليّة.
إن طموح روسيا هو تطوير طريق بحر الشمال عبر بحر القطب الشماليّ، والذي من شأنه أن يختصر الوقت اللازم لشحن البضائع الصينيّة إلى أوروبا عبر قناة السويس بنحو النصف تقريباً. وكان جزء كبير من الخطط الأصليّة لروسيا لاستخراج مواردها في القطب الشمالي مرتبطاً بالغرب. ومع العملية العسكرية في أوكرانيا قطعت شركات الشحن الأوروبية علاقاتها مع المشغلين الروس في عام 2022، وتخلّت شركات الطاقة الغربيّة عن مشاريع الطاقة الخاصة بها.
لقد أوضحت الحرب الروسية/ الأوكرانية مدى حيويّة التفكير الجيواقتصادي، وخاصة في موسكو. وحتى في ما يتعلق بألاسكا، تدرك روسيا أيضاً “حدودها التاريخيّة”. فعلى سبيل المثال، عندما أعلن الرئيس جو بايدن في خطابه في وارسو في مارس 2022 أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يعني أن روسيا “تتراجع إلى القرن التاسع عشر”. فنشرت السفارة الروسية في كندا على X : “تحترم روسيا الحدود السيادية للقرن “الحادي والعشرين”. ولكن عندما تكون في بولندا تتحدث عن إعادة روسيا إلى القرن “التاسع عشر”، ونحن لا نمانع، على الأقل، في ما يتعلق بألاسكا”. وهذه إشارة إلى ملكيّة روسيا للأراضي قبل بيعها للولايات المتحدة في عام 1867.
وسواء كانت هذه الملاحظة جادة حقاً أم لا، فيجب أن يأخذ المسؤولون الأميركيون خطاب روسيا الجديد في ألاسكا على محمل الجد، خاصة أن المصالح الجيوستراتيجية على المحك في القطب الشمالي.
وتستجيب الولايات المتحدة بالمناورات وتوسيع وجودها العسكري في المنطقة. وفي هذه الحرب الباردة الجديدة، تلعب ألاسكا دوراً محورياً. فقد نشرت القوات الجوية الأميركية عشرات الطائرات المقاتلة من طراز إف-35 في ألاسكا، وأعلنت في عام 2022 أن الولاية ستستضيف “أكبر تجمّع للقوة الجوية من الجيل الخامس المبرمجة للقتال في العالم”.
وأصدر الجيش الأميركي في يناير، أول خطة استراتيجية له “لاستعادة الهيمنة على القطب الشمالي”. كما وضعت البحريّة الأميركية، التي أجرت تدريبات فوق وتحت الجليد داخل الدائرة القطبية الشمالية في مارس 2022، خطة لحماية المصالح الأميركية في المنطقة، محذّرة من أن الضعف هناك يعني أن “السلام والازدهار سيتعرّضان لتحدٍّ متزايد من جانب روسيا والصين، اللتين تختلف مصالحهما وقيمهما بشكل كبير عن مصالحنا وقيمنا”.
وفي مواجهة هذا التحدّي، استثمرت الحكومة الفيدرالية الأميركية مئات الملايين من الدولارات على الساحل الغربي لألاسكا لتوسيع ميناء نوم، الذي قد يتحوّل إلى مركز للمياه العميقة يخدم سفن خفر السواحل والبحرية التي تبحر إلى الدائرة القطبية الشمالية. وفي الوقت الحالي، توقفت الخطط بسبب التكاليف المفرطة. ويخطط خفر السواحل لنشر ثلاث كاسحات جليد جديدة في المستقبل ــ وتملك روسيا بالفعل 41 كاسحة جليد في الخدمة لفتح طرق تجارية أوراسية جديدة.
ولعل التحدّي الأكبر الذي يواجه روسيا هو جذب الناس إلى مثل هذه البيئة المحظورة. وبالمقارنة بالمناطق الشمالية الأخرى ــ ألاسكا وغرينلاند وإسكندنافيا ــ فقد انخفض عدد سكان روسيا في القطب الشمالي بنسبة 20% في نهاية الحقبة السوفياتية، واستمر تدفق صافٍ يبلغ نحو 18 ألف نسمة سنوياً. ويبلغ عدد السكان حالياً نحو 2.4 مليون نسمة، وهو “ينمو في مناطق النفط والغاز وينخفض ​​ببطء في المناطق الأخرى”. ولكن الصين، جارة روسيا التي تزداد صداقتها، لديها عدد كبير من السكان الذين قد يكونون على استعداد للانتقال إلى الحدود الجديدة.

الوفاق الصيني الروسي

وبالنسبة للصين يوفر الممرّ الشمالي الشرقي ميزة هائلة وهي انخفاض تكاليف النقل بين أوروبا وآسيا. وبالمقارنة بالرحلات البحريّة الأطول عبر قناة السويس وقناة بنما، فإن الممر الشمالي الشرقي يقلل من أوقات النقل بين أوروبا وشرق آسيا إلى النصف. وتشرح الحكومة الصينية في “الكتاب الأبيض حول القطب الشمالي” أن “طرق الشحن في القطب الشمالي من المرجّح أن تصبح طرق نقل مهمة للتجارة الدولية نتيجة للاحتباس الحراري العالمي”.
وتهتم الصين أيضاً بالمواد الخام في غرينلاند، حيث عزّزت بكين حضورها الاقتصاديّ في المنطقة، بما في ذلك الاستثمار في عمليات التعدين، ومع ذلك، تعتمد بكين على موسكو لاستخراج هذه المواد الخام وإنشاء طرق نقل جديدة.
إن افتتاح طريق البحر الشمالي من شأنه أن يعزّز العلاقات الروسية الصينية. فقد وقعت روسيا والصين اتفاقية لتصميم وبناء سفن حاويات جديدة من فئة الجليد. وأكثر من أي إمكانات شحن عالمية بعيدة، سيتمّ استخدام طريق البحر الشمالي لاستغلال ونقل الطاقة والمعادن.
وفي الواقع فإن بوتين وشي مفتونان بطريق القطب الشمالي الجديد. ويرى بوتين في القطب الشمالي رواية جديدة عن قهر الإنسان للطبيعة. ويشكل القطب الشمالي ركيزة أساسيّة لعودة روسيا إلى وضع القوة العظمى. وبالنسبة لشي، فإن طريق بحر الشمال يشكل شرياناً بحرياً يهدف إلى أن يكون “طريق الحرير القطبي” لبكين. وعلى النقيض من قناة السويس ومضيق ملقا، فهو أقل عرضة للحصار من قِبَل الأسطول الأميركي.
إن ما يحاول ترامب فعله هو “مضاعفة جهوده وإعادة التركيز على الحدود الخارجية لنصف الكرة الغربي، والدفاع عنها ضد منافسي القوى العظمى”، كما قال ألكسندر غراي، الذي شغل منصب رئيس موظفي مجلس الأمن القومي السابق لترامب، في تصريحات نقلتها صحيفة وول ستريت جورنال، حيث قال: “هناك فكرة مفادها أن أولويتنا هي الدفاع عن نصف الكرة الغربي للتصدّي للتنافس الروسي – الصيني، وعلينا أن ننطر إلى غرينلاند وبنما في هذا السياق”.
ولكن بدلا من التبجّح بشأن استخدام القوة العسكريّة، ينبغي لترامب أن يبدأ محادثات خلف الكواليس مع حكومتي الدنمارك وغرينلاند بشأن حقوق القواعد والاتفاقيات الأخرى التي تحدّ من الاستثمار الصيني.
وبعبارة أخرى، فإن نهج ترامب هو نسخة حديثة من مبدأ مونرو لعام 1823، الذي كان يهدف إلى إبعاد القوى الأوروبية عن نصف الكرة الغربي. وتركز سياسة ترامب على تأكيد هيمنة الولايات المتحدة ومنع الصين وروسيا من اكتساب النفوذ في المنطقة. ويشمل هذا دعواته لضمّ غرينلاند، والسيطرة على قناة بنما، وجعل كندا الولاية الحادية والخمسين.
وتبدو هذه السياسة قصيرة النظر وترهيبية ولا تشبه تصرف الحلفاء. ويجب أن لا تكون الأمور على شاكلة “أنا أفوز وأنت تخسر” بدافع الاستعراض والحمائية التجارية والسياسة الخارجية أحادية الجانب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى