أولى

الوطن العربي بين دولة الأمة ودولة الحضارة

 

 زياد حافظ*

 

التحوّلات في العالم وفي الإقليم بما فيها طوفان الأقصى والأحداث في سورية أولدت سلسلة من تساؤلات سياسية وجيوسياسية وخاصة على صعيد الفكر السياسي. فمنذ تفكّك الاتحاد السوفياتي تسعى الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة تغيير مفهوم الدولة من دولة أمة (nation state) إلى دولة تكنوقراطية (techno state)، بمعنى أنّ أسس ومرتكزات الدولة الأمة التي حكمت المشهد السياسيّ منذ معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر لم تعُد مقبولة من قبل النخب الحاكمة التي أصبحت ناطقة في الدولة باسم الشركات. ففي حقبة العولمة أصبحت الدولة الأمة عقبة أمام مصالح الشركات الكبرى التي تتخطّى الحدود الجغرافية. ومفهوم الناس تحوّل من أعمدة إقامة الدولة إلى مجموعة أفراد وظيفتهم الاستهلاك فقط. فمن يقرأ أدبيات منتدى دافوس وأدبيات مارغريت تاتشر وميلتون فريدمان على سبيل المثال يرى أن المجتمعات المستقبلية هي أيضاً عبارة عن تجمّع أصحاب المصالح (stakeholders) ويغيّب مفهوم الشعوب ومعهم الموروث الثقافي لديهم. في المقابل، هناك ردّة فعل تتجسّد في التمسّك بالدولة الحضارة أيّ الدول التي لها حضارة (civilization state) كروسيا، الصين، الهند، إيران، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. فالدولة الأمة التي تخلّت عن موروثها الحضاريّ قد تنقرض أمام التوجّه العولمي بينما دولة الحضارة حصن منيع لما ينتج عن العولمة.
أما في ما يتعلّق بالوطن العربي فنلاحظ أنّ الأمة العربية هي الأمة الوحيدة التي لا دولة لها. فالغرب ومعه الكيان الصهيوني عمل على منع إقامة دولة الوحدة التي تمثّل طموحات الأمة العربية، بل عمل ونجح إلى حدّ كبير في خلق كيانات تابعة للمركز الغربي وعاقبت من حاول التمرّد على ذلك المركز. لكن ما لاحظناه هو أنّ الدول العربية لم تصبح دولة أمة في كل قطر لأنّ الأمة العربية هي التي تجمع الكلّ بينما الخصوصيّات القطرية لم تشكّل قاعدة لتكوين “أمة” قائمة بحدّ ذاتها. ما يجمع العرب هي هويّتهم العربية وروحها الإسلام كحضارة. وتشمل هذه الهوية مكوّنات عديدة دينية وعرقية وجميعها جزء من الحضارة العربية الإسلامية. لكن نشهد محاولات في عدد من الدول العربية في طرح مفهوم الأمة القطرية كواقع يؤسّس لدولة أمة مختلفة عن إطار الدولة التي أوجدها المستعمر الأوروبيّ كأداة إدارية لمستعمراتها. فالحدود المرسومة هي حدود الإدارة الاستعمارية ولا تعكس المسار التاريخيّ لوجود هذه الدول أو الكيانات وتفاعلها مع كافة مكوّنات الأمة. ومرور ما يقارب قرناً من الزمن على عدد من هذه الدول أو الكيانات لا يعني أنّها أصبحت كيانات قائمة بحدّ ذاتها لها شرعية التعبير عن رغبة شعوبها. حروب الاستقلال ضدّ المستعمر خلقت ثقافة مزدوجة منها ثقافة موروث الهوية العربية وروحها الإسلام كحصن أمام تغريب القطر ومنها الاعتزاز بالواقع المستقلّ الجديد من القبضة الاستعمارية. لكنها هل ارتقت إلى تكوين مفهوم دولة أمة؟ هذا أمر يستوجب نقاشاً في العمق حول ما تريده الشعوب وكيف يمكن أن تتوافق مع موروثها التاريخي. رأينا في هذا الموضوع واضح. نحن من دعاة إقامة دولة الوحدة بين كافة أقطار الأمة وإنْ كان شكل تلك الدولة قد يكون موضوعاً لنقاش بين المفهوم الاتحادي أو المفهوم الاندماجي أو المفهوم الكونفدرالي. وهذا النقاش قد يكون سابقاً لأوانه والكيان الصهيونيّ قائم ويمنع أيّ تقارب وحدوي حتى بين الأحزاب الواحدة في الأقطار المختلفة. إلاّ أنّ التأكيد على دولة الوحدة هو التأكيد على إقامة دولة أمة مرتكزة إلى حضارتها الواسعة والعريقة. كما أنّ الدولة الواحدة هي التي تستطيع أن تحافظ على الأمن القومي والأمن القطري بينما الدولة القطرية أخفقت في حماية نفسها من أطماع الكيان والمستعمر الغربي.
التحوّلات الأخيرة في المشرق العربي أوضحت أنّ “طوفان الأقصى” وطموحات الكيان الصهيونيّ في إقامة دولته الكبرى على حساب الأقطار العربيّة أسقط النموذج الناتج عن حقبة سايكس بيكو. فوحدة الساحات في مواجهة الكيان توحّد الأمة. أما سقوط سورية الموقت برأينا من ساحة المواجهة مع الكيان فإنه يشكّل ضربة قاسمة لتماسك النظام العربيّ القائم منذ الحرب العالمية الثانية ويطرح على بساط البحث شرعيّة تلك الأقطار. فهذه الدول تتمتع فقط بشرعيّة الأمر الواقع حيث حدودها رسمها المستعمر الأوروبي وكرّستها الهيمنة الأميركية على المنطقة. كما أنّ المصلحة الغربية ومصلحة الكيان هي ما تحدّد جدوى بقاء الكيانات أو تعديلها أو إزالتها. أما الشرعيّة الناتجة عن عقد اجتماعي وسياسي بين الشعوب والنخب الحاكمة فهي غائبة أو مغيّبة. ونعتقد أنّ مفهوم العقد الاجتماعيّ والسياسيّ لإقامة الدولة العربية يشمل الالتزام بقضية فلسطين ليس لفظياً فحسب، بل بالممارسة وبمعنى إزالة الكيان الصهيوني من الوجود في المشرق العربي. وبالمناسبة، أصبح هذا الالتزام المفهوم الجديد للحالة “التقدمية” أو “الوطنية” أو “القومية” وليست المعايير التقليدية الموروثة من الحقبة الاستعمارية.
طموحات الغرب والكيان الصهيوني في الأراضي العربية تعني أنه يجب التخلّص من سكّانها. من هنا نفهم التغطية الفعلية في الغرب لجرائم الإبادة الجماعيّة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في فلسطين وطموحاته المعلنة في كل من لبنان، وسورية، والأردن، والعراق، والجزيرة العربية، ومصر. والغرب لن يمانع ترحيل أو إبادة السكّان في تلك الدول تمهيداً ربما لاستيطانها واستعمارها مجدداً خاصة أنه قام بهذا في الماضي. لذلك نشهد في الوطن العربي هجوماً على سيادة الدول العربية التي هي هشّة في الأساس بسبب تكوينها. هذا هو معنى احتلال سورية من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والنظام التركي. احتلال سورية يعني عدم الاعتراف بسيادة الدول العربية خاصة أنّ كلّا من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة والنظام التركي لم يخفوا طموحاتهم في الأرض العربية. فكيف ستتعامل دول المشرق والمغرب العربي؟ والمغرب العربي معنيّ أيضاً بما يحصل وخاصة في الجزائر التي يستهدفها المستعمر القديم والكيان الصهيوني. والخلاف بين الجزائر والمغرب على سيادة الصحراء الغربية يأتي في سياق تكريس التباعد المصطنع ويمهّد لمزيد من تحرّكات تفتيت يطلقها الغرب.
الرئيس الأميركي ترامب قد أعلن في ولايته الأولى عن تأكيده أنّ ملكية آبار النفط والغاز هي للولايات المتحدة. وما يعلنه اليوم من رغبته في ضمّ كلّ من قناة بناما وغرينلاند وحتى كندا يدلّ أولاً على النزعة التوسّعية لفكرة الولايات المتحدة وثانياً على فشل النموذج الغربي لإنتاج الثروة، وبالتالي لا بدّ من الاستيلاء على ثروات الشعوب لإعادة التوازن بين اقتصاد مالي افتراضي متضخّم بسبب المديونيّة المنفلتة واقتصاد عينيّ متراجع بسبب إعادة توطين القاعدة الإنتاجية خارج البلاد. لذلك أقدَمت إدارة بايدن على تدمير أوكرانيا واقتصادات الدول الأوروبية لتفرض عليها غازها وسلاحها. هذه البلطجة تشير إلى أنّ النموذج الغربي للدولة والحكم تحوّل من مفهوم مصالح الأمة إلى مصالح الشركات والمال. وهذا المفهوم يتناقض مع مفهوم الحضارة التي تواكب تطوّر كل أمة. وحتى في الغرب نرى أن مفهوم السيادة يتعرّض لهجوم ممنهج من قبل الولايات المتحدة. فدعوات ترامب لضمّ كندا وغرينلاند وقناة بناما ومباركة الكيان الصهيوني لضمّه أراضي عربية دليل أن الحدود والسيادة لم تعد تعني شيئاً في الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. فالاتحاد الأوروبي الذي يحاول القفز فوق سيادة دول الأعضاء سلّم قراره للولايات المتحدة. والدول الأوروبيّة الأعضاء سلّمت تبعاً قرارها السيادي للولايات المتحدة. وفقدان السيادة يفقد مبرّر وجود الدولة الأمة. وليس من الواضح كيف تستطيع النخب الحاكمة التي سلّمت قرارها السيادي أن تخرج من المأزق. لذلك نشهد صعود الحركات اليمينية في أوروبا التي تؤكّد على ضرورة استعادة سيادتها. فهل ستنجح أمام القطار المتهوّر لتيّار العولمة الذي يتناقض مع مفهوم السيادة؟
في المقابل، نشهد أنّ روسيا والصين والهند والجمهورية الإسلامية في إيران وجنوب أفريقيا وإجمالي دول الجنوب في أفريقيا وأميركا اللاتينية تؤكّد ضرورة استعادة تلك السيادة وتبني مفهومها لنظام سياسي عالمي يحكم العلاقات الدولية على قاعدة احترام السيادة للدول وليس على قاعدة موازين قوّة غير متكافئة.
والوطن العربي أصبح في رأينا مهدّداً بشكل مباشر وعلنيّ من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وتركيا. ولا يحمي الدول العربية إلاّ تفعيل الإجراءات الوحدوية وخاصة اتفاقيات الدفاع المشترك والسوق العربية المشتركة تمهيداً لإقامة نوع من اتحاد عربيّ يواجه تلك المخاطر الوجودية. المعالم الرئيسية لهذا المشروع العربي تكمن في التأكيد وتحصين استقلالية القرار العربي في القطر كما على صعيد الأمة. وهذا المشروع يعني أنّ مشروع الاستقلال هو مشروع المقاومة. فلا استقلال وطنياً أو قومياً في ظلّ وجود الكيان الصهيوني. كما أنه لا مشروع تنمية ولا عدالة اجتماعية ولا مشاركة الشعوب في تحديد خيارات وطموحات الأمة في ظلّ وجود الكيان الصهيوني والاحتلال الغربي والتركي للأرض العربية.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى