سقوط الترانسفير إلى غير رجعة
ناصر قنديل
للذين يواظبون على الترويج لنظرية الانتصار الصهيوني على قوى المقاومة في حرب الطوفان، استناداً فقط إلى حجم الخسائر التي ألحقتها الحرب بقوى المقاومة، خصوصاً في غزة ولبنان، والشعبين اللبناني والفلسطيني، خصوصاً البيئة الحاضنة للمقاومة، دعوة للنقاش المنهجيّ حول أرباح وخسائر المشروع الصهيوني في سياق صعوده وهبوطه من الزاوية التاريخية، باعتبار أن مشروع المقاومة ليس مشروعاً قائماً بذاته، بل بصفته دعوة لمواجهة المشروع الصهيوني، وقياس تقدّم مشروع المقاومة أو تراجعه ليس بقياس أكلاف المواجهات التي يخوضها مع المشروع الصهيونيّ، بل بمدى نجاحه أو فشله في إسقاط الحلقات المحورية والمفصلية والبنيوية في المشروع الصهيونيّ.
منذ قيام كيان الاحتلال كانت ركائز المشروع الصهيوني تقوم على مدى القدرة في الحفاظ على الخط البياني الصاعد على مستويين، الأول عسكري معياره القدرة على احتلال المزيد من الأراضي وفرض الإرادة الصهيونية عليها، والثاني ديمغرافي وجوهره القدرة على استقدام المزيد من هجرات المستوطنين بإغراء الأمن والرفاه من جهة، وتهجير السكان الأصليين تمهيداً لتوسيع دائرة الاستيطان وتأمين الغلبة التي تتيح ديمغرافيا بسبب هذه الغلبة العددية، الحديث عن دولة ديمقراطية، لكن يهودية.
على المستوى العسكريّ كان احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقيّة عام 1967 آخر مراحل توسّع الكيان، وقد ترافق هذا الاحتلال مع مشاريع هجرات استيطانيّة نالت الضفة الغربية النصيب الأوفر منها، وجاء الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 ثم الانسحاب من قطاع غزة، وما تلاه من تفكيك المستوطنات، يقول إن ثمّة عطباً بدأ يصيب هذا المشروع، سواء على مستوى القدرة على الاحتفاظ بالأراضي التي يتمّ احتلالها، أو مدى القدرة على تأمين الحماية للاستيطان.
جاءت حرب طوفان الأقصى لتفتح كل المعارك المؤجلة، ومثلما فشل الكيان في إعادة احتلال أي أجزاء من جنوب لبنان واضطر للتوقيع على اتفاق ينصّ صراحة على التزامه بالانسحاب من كل الأراضي اللبنانية، بما فيها تلك التي لم ينسحب منها بعد صدور القرار 1701 عام 2006، وهو وقع على اتفاق إنهاء الحرب في غزة أيضاً على انسحاب شامل من قطاع غزة، التي تشكل جزءاً هاماً من فلسطين وترابها الوطني، وفشل مشروع الجنرالات في شمال قطاع غزة الذي كان مقدّمة لإعادة الاستيطان إلى غزة، ولم يعُد ممكناً الحديث عن وظيفة استراتيجية للحرب في محو آثار انسحابي العام 2000 من جنوب لبنان و2005 من قطاع غزة، فما حمله اتفاق وقف النار في لبنان ومثله اتفاق غزة، واضح بتضمينه التزاماً إسرائيلياً بالعودة الى خرائط وحقائق العام 2000 لبنانياً و2005 فلسطينياً.
المشروع الاستراتيجي الأهم الذي كان موضوع اختبار في هذه الحرب، هو مشروع تهجير الفلسطينيين، الذي يسمّى بـ “الترانسفير”، والذي تشكل غزة حلقته الأهم، عبر الرهان على تهجير الحرب مليوني فلسطيني، ينتج عن حذفهم من معادلة جغرافيا الكيان إلى تعديل ميزان الديمغرافيا بين الفلسطينيين والمستوطنين لصالح الغلبة اليهودية، بعدما ثبت أن طريق الهجرة اليهودية إلى فلسطين لم يعُد يملك موارد بشرية يستثمر عليها لزيادة أعداد المستوطنين وصار تعديل التوازن السكانيّ لصالح الغلبة اليهودية مشروطاً بتهجير الفلسطينيين وتناقص أعدادهم من الجغرافيا التاريخية لفلسطين، وما ينجح في غزة يقدم مثالاً يمكن البناء عليه لإجبار فلسطينيي الضفة على الهجرة نحو الأردن، وصولاً الى الأراضي المحتلة عام 1948 ومشروع تهجيرها إلى لبنان، وسقوط المشروع في غزة يعني سقوطه كلياً كرهان تاريخي.
الذي جرى في هذه الحرب غير قابل للتكرار في أي حرب مقبلة، إن كانت لدى الكيان القدرة على شن حرب مقبلة، ومَن يدقق في حجم الجرائم التي ينطبق عليها توصيف الإبادة بكل معانيه، والخطط المعلنة للتهجير، يعلم أن الضوء الأخضر الغربي والأميركي خصوصاً كان متاحاً أمام مشروع الترانسفير وكان متوفراً دائماً خلال الحرب، وأن نهاية الحرب والفلسطينيين لا يزالون في غزة، تعني أن مشروع الترانسفير في أي بقعة فلسطينية أخرى، بات محكوماً بتجربة غزة، التي كان يفترض أن تشكل مثالاً للتهجير، وقد صارت مثالاً للصمود الفلسطيني وفشل مشروع التهجير. وإذا فشل مشروع التهجير فكيف يمكن للكيان أن يتعامل مع حقيقة أن عليه الاختيار بين أن يكون دولة ديمقراطية وغير يهودية، أو أن يكون دولة يهودية وغير ديمقراطية، وأن الخيارين مشروع تصادم في حرب أهلية بين مكوّنات الكيان، وأن خيار الدولة اليهودية قد يبصر النور بحكومة انفصالية في مستوطنات الضفة الغربية. وفي كل الأحوال إن فشل الترانسفير ليس حدثاً عادياً في تاريخ الكيان، بما يحمله من حقائق لا تقبل التجاهل، وتعلن مواجهة مأزق وجودي يتهدد الكيان لا يملك أحد من قادته عليه جواباً بعد!
لم يعد الخيار بين “إسرائيل” الكبرى و”إسرائيل” العظمى او “إسرائيل” العظيمة، بل بين “إسرائيل” الصغرى وسلوك طريق الأفول سواء عبر الحرب الأهلية أو عبر الحكومة الانفصالية. وفي كل الأحوال نجح مشروع المقاومة بإسقاط حلقتي القوة في المشروع الصهيوني، حلقة القدرة على الاحتلال وحلقة القدرة على التهجير.