أولى

أميركا متواطئة مع العدو… فليزحف الأهالي إلى قراهم

 

 د. عصام نعمان*

 

بقرار من “الكابينت” الرسمي وبعد إعلام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أعلنت حكومة “إسرائيل” قرارها عدم الانسحاب من القرى الحدوديّة اللبنانية عشيةَ انقضاء مهلة الستين يوماً المنصوص عليها في قرار وقف إطلاق النار. أميركا لم تعترض ما يشير إلى تواطئها مع “إسرائيل” لتغطية فعلتها النكراء. فرنسا وسائر أطراف لجنة الإشراف على تنفيذ القرار المذكور لم تستنكر ولم تتحفّظ. المقاومة بقيادة حزب الله كانت حذّرت سلفاً من مغبة إقدام “إسرائيل” على فعلتها، لكنها تركت لحكومة لبنان اللادولة معالجة تداعيات الخرق الجلل. هل ما جرى مؤشر إلى أنّ اتفاق وقف إطلاق النار مرشح إلى الإهمال، وأنّ تمديد الاحتلال الصهيوني الجزئي مقبلٌ لتوّه على التوسّع والاستمرار؟ ألا يدلّ إعلان العدو حظر توجّه الأهالي إلى 64 بلدة وقرية جنوبيّة دليلأً دامغاً على اعتزامه تمديد الاحتلال على طول شريط حدوديّ جديد؟
تتعدّد الاجتهادات في هذا المجال. بعضها يرى أنّ أفاعيل “إسرائيل” العدوانيّة في هذه الآونة ليست في مقدمة اهتمامات ترامب حاليّاً، وأنّ كيان الاحتلال سيمتثل عاجلاً او آجلاً إلى مفاعيل قرار وقف إطلاق النار. بعضهم الآخر يرى أنّ المماطلة أسلوب “إسرائيلي” قديم معتمد في المماحكة ويؤول غالباً الى تحقيق الغرض الأصلي من خرق الاتفاقات المعقودة ظاهراً برضى أميركا تمهيداً لتوسيع رقعة الاحتلال. المهم ما يجب أن يفعله لبنان، وكيف؟
الأصحّ أن نتساءل عمّا يستطيعه لبنان في وضعه الراهن المترهّل رغم أنه بدا بعد انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية وخطاب قَسمه المترع بالأهداف والإصلاحات والأماني جادّاً في طريقه إلى تحقيقها، وأنّ صفحةً جديدة مشرقة قد فُتحت في تاريخ البلاد.
الحقيقة أنّ ما يستطيع لبنان واللبنانيون، مسؤولين ومواطنين، فعله في هذه الآونة محدود. ذلك أنّ أهل السياسة ما زالوا يتخبّطون في أزمة متطاولة عنوانها تأليف حكومة جديدة برئاسة نواف سلام (الإصلاحي القديم والسفير النشيط في الأمم المتحدة والقاضي الجريء في رئاسة محكمة العدل الدوليّة) الذي وجد نفسه بعد تكليفه في غمرة تعقيدات وتحديات ومطالبات عدّة متضاربة، وأنّ عليه السعي جاهداً للخروج منها قبل حلول موعد الانتخابات النيابية المقبلة في منتصف شهر أيار/ مايو 2026.
ماذا عن القوى الشعبيّة؟
إنّها ثلاثة تجمعات غير متكافئة تنظيماً وقوة ًونفوذاً. الأقدم بينها قوى تقليدية مسيحية ومحمدية ذات تركيبة طائفية تناوبت على السلطة طوال زمن النظام الطوائفي القائم منذ استقلال البلاد سنة 1943. الأقوى بينها عدداً وتنظيماً وممارسةً حزبُ الله وحلفاؤه من شتى الطوائف والتجمّعات. الأوفر بينها انفتاحاً قوى وطنيّة تقدميّة هي الأكثر تفرّقاً من جهة، وتغييريّون من نواب وشخصيّات قيادية من جهة أخرى، مماثلون كغيرهم في الانقسام والتقلّب.
لعلّ حزب الله هو الأقدر بين القوى الشعبيّة على الأرض وفي الفعاليّة السياسية والميدانية. صحيح أنه فَقَدَ بعضاً من قوته وفعاليته بعد اغتيال قائده الفذّ الشهيد السيد حسن نصرالله وثلة من قياديّي الصف الأول، إلاّ أنه سرعان ما تعافى وعاود نشاطه السياسي والميداني بقيادة جديدة يتصدّرها الشيخ نعيم قاسم. لكن حزب الله مثقل بهمٍّ يعتبره في هذه الآونة أولويةً مطلقة هي إعادة إعمار ما تهدّم وتخرّب من منازل ومستشفيات وبنى تحتية في مختلف بلدات وقرى الجنوب وسهل البقاع وضاحية بيروت الجنوبية، وكذلك إعادة عشرات آلاف النازحين إلى ديارهم وبيوتهم وأعمالهم.
غير أنّ ثمة مفارقة لافتة تحدّ من هامش حرية العمل لدى حزب الله هي موافقته على اتفاق وقف إطلاق النار بغية تنفيذ أحكام القرار 1701 في المنطقة الممتدة من نهر الليطاني الى الحدود مع فلسطين المحتلة، وتركه الأمور المتعلقة بتنفيذ القرار المذكور للحكومة اللبنانية الأمر الذي حدّ ويحدّ من حريته في التعامل عسكرياً مع “إسرائيل” عند قيامها باعتداءات على لبنان أو تأكيد عدم انسحابها من بعض قراه المحتلة في جنوبه الشرقي.
لئن بدا حزب الله وغيره من القوى الوطنية حريصاً على عدم إعطاء “إسرائيل” ذريعة لتبرير تمديد احتلالها لبعضٍ من قرى جنوب لبنان، إلاّ أنّ تواطؤ أميركا السافر مع كيان الاحتلال من جهة، وعجز الجيش اللبناني بوضعه الراهن من جهة أخرى عن صدّه وإرغامه على التقيّد بأحكام قرار وقف إطلاق النار، يستوجبان اعتماد وسائل أخرى فاعلة لإكراه العدو على التراجع دون قيد أو شرط.
في هذا المجال، يجب ألّا يدّخر حزب الله وسائر القوى الوطنية وسعاً في دعم وتعزيز فعالية التعبئة العامة الناشطة من أجل إطلاق زحف أهالي الجنوب للعودة إلى قراهم بلا إبطاء أيّاً يكن موقف الولايات المتحدة وسائر أطراف لجنة الإشراف على قرار وقف إطلاق النار، وأيّاً يكن موقف “إسرائيل” وحُماتها، وأيّاً يكن موقف “أصدقاء” أميركا في لبنان وأعداء حزب الله من الأحزاب الطائفية المتطرفة ومحترفي مهادنة “إسرائيل” والداعين إلى معالجة اعتداءاتها واحتلالاتها بالوسائل الديبلوماسية فقط. وليكن معلوماً أيضاً أنّ حزب الله وحلفاءه من سائر قوى المقاومة تصدّوا ببسالة في الحرب لخمس فرق من الجيش “الإسرائيلي” وحالوا دون تقدّمها كيلومتراً واحداً على حافة قرى الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة ما أدّى الى إبقاء جميع سكان المستعمرات الصهيونية في منطقة الجليل المحتلة نازحين مشرّدين في شتى أنحاء الكيان. وليكن معلوماً أيضاً أنّ تمسّك “إسرائيل” بعدم الانسحاب من القرى الأمامية في جنوب لبنان سيؤدي إلى استئناف الحرب ضدّها بفعالية أقوى، وأنّ ما عجز عنه العدو الصهيوني في الماضي القريب لن يقوى على تحقيقه في الحاضر المتوهّج بإرادة الكفاح كي يبقى لبنان دائماً البلد العربي الأول الذي استطاع بالمقاومة والمثابرة إجلاء العدو من شريط احتلال حدودٍ دام 18 سنة دون قيد أو شرط أو معاهدة صلح أو اتفاقية تطبيع أو علم صهيوني يرفرف على سفارة في بيروت.
نعم، التحديات كثيرة وكبيرة وخطيرة، لكن تراث كفاح اللبنانيين الأحرار وصمودهم الطويل يصرخ في وجوه المستكبرين جميعاً أن لا تحرّر من الاحتلال إلّا بالمقاومة وبالمزيد من المقاومة حتى تحقيق النصر…

*نائب ووزير سابق
[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى