ترامب وقضايا الإقليم والمستقبل…
د. جمال زهران*
تصريحات ترامب، منذ نجاحه في الخامس من نوفمبر 2024م – والذي توقعته مع النادرين في التوقع – لم تتوقف، وتتدفق كالسيل من فمه، وكأنه كان مكبوتاً، حتى قبل أن يحلف اليمين في العشرين من يناير الحالي، بل لم يتوقف عن التهديدات لأطراف الصراع في أكثر من منطقة، وخاصة المنطقة العربية، كما أنه سارع لممارسة السلطة الفعلية وقبل حلف اليمين بالمخالفة للتقاليد الدستورية! كما أنه سارع إلى إرسال المبعوثين نيابة عنه وتمثيلاً له، على الرغم من عدم توليه رسمياً، إلى المناطق الساخنة، ومن الواضح أنه لم يكن صابراً على وصوله رسمياً إلى سدنة الحكم في البيت الأبيض!
فالتقاليد المستقرة في عرف الانتخابات الأميركية، بل والنص الدستوري، يشيران إلى أنّ الرئيس الجديد الذي ينجح في الانتخابات الرئاسية التي تجرى يوم الثلاثاء الأول من شهر نوفمبر، كل أربع سنوات، يقوم بإجراء الترشيحات الجديدة للمناصب الكبرى وهي بالآلاف، في المدة الزمنية بعد نجاحه وحتى حلف اليمين، وهي نحو (75) يوماً (أي شهرين ونصف الشهر)، وليس من الواجب مزاحمة الرئيس القائم في السلطة، في ممارسة أعماله الرئاسية، إلى أن يتمّ تسليمه السلطة رسمياً في العشرين من يناير التالي. إلا أنّ ترامب كان في عجلة من أمره، ومستعجلاً على ممارسة السلطة، وفي ظلّ عنجهية القوة، واستحضارها في المشهد!
والأهمّ من ذلك، هو موقف هذا الرئيس الجمهوري، من واقع تصريحاته، وخطاب التسلّم في العشرين من يناير الحالي، وفي ضوء خبراته في الرئاسة الأولى (2017- 2021)، من قضايا الإقليم العربي والشرق أوسطي، وتداعيات ذلك والتصوّرات المستقبلية.
فالمنطقة العربية والشرق أوسطية، تعيش على بركان ساخن، وقابل للانفجار الشديد في أيّ وقت، ومن الصعب التحكم فيه. فالإقليم مليء بالأزمات، ولعلّ غالبية أزمات العالم توجد في إقليمنا، الذي يضمّ أغلى ثروات العالم. فهناك الأزمة الرئيسية وهي الصراع العربي/ الصهيوني الاستعماري من عام 1948م، وحتى الآن (77 عاماً)، وهناك الأزمات الفرعية في المجال العربي، ومنها أزمة سورية الحديثة ومن قبل، أزمة لبنان، وأزمة ليبيا، وأزمة السودان، وأزمة اليمن، فضلاً عن أزمة الصحراء الغربية بين الجزائر والمغرب، والقطيعة بينهما، وتمسّ موريتانيا، وكذلك أزمة الإسلام السياسي، فضلاً عن استمرار الأزمة العراقية والأكراد. وعلى مستوى الإقليم فهناك الأزمة التركية وأحلام عودة المشروع العثماني، الذي يتجدد بين حين وآخر، وإصرار أردوغان على احتلال حلب والغرب السوري.
وعلى الجانب الآخر، فهناك إيران، ومشروعها المقاوم الداعم للقضية الفلسطينية فضلاً عن إصرارها على امتلاك السلاح النووي، والقدرة على تحمّل الضغوط الأميركية الأوروبية، للحيلولة دون تحقيق الحلم الإيراني، وضرب محاولات توسّعها عبر مشروع محور المقاومة. ولذلك لم تدّخر وسعاً في تنويع اتفاقياتها الاستراتيجية مع الصين منذ سنوات عدة، ومع روسيا خلال الأسبوعين الأخيرين، لدعمها في مواجهة الغرب، وكسر حصاراته، وتفعيلاً لمشروعها.
في هذا السياق المأزوم، يصل ترامب إلى البيت الأبيض، بتصريحاته، المتعدّدة الاتجاهات، والتي لا يستطيع محلل أن يضمّها في عنوان واحد. فهل الرجل يريد السلام ووقف الحروب، أم يريد الحرب والاستيلاء على مناطق وجزر بل ودول؟!
فالملاحظ قبل أن يبدأ، وعلى هدى من قراراته السريعة وتصريحاته الأسرع، هو أن يقول إنه يريد أن يستولي على قناة بنما، لأنّ الصين تستولي عليها وتلك هي الحجة! وهذا معناه الحرب على بنما وانتهاك سيادتها، وعلى الصين في إطار الصراع الأميركي ـ الصيني! ويهدّد المكسيك حتى الاستيلاء عليها بالضغط بتصدير المهاجرين غير الشرعيين وإقامة جدار حدود رهيب، وإعلان حالة الطوارئ بطول الحدود مع المكسيك! في الوقت نفسه تهديداته بالاستيلاء على كندا وضمّها إلى أميركا، التي يحلم بأن تكون هي الدولة الأقوى والأغنى في العالم، وهذا لا يتمّ إلا بالحروب…
كما أنّه يريد ضمّ جزيرة غرينلاند، التابعة للدنمارك، ويهدّد أنّ ذلك سيتمّ بالقوة، وسواء بإرادة الدنمارك أم بغير إرادتها، الأمر الذي قاد إلى مكالمة تليفونية مع رئيسة وزراء الدانمارك، استمرت نحو 45 دقيقة، قام فيها ترامب بتوبيخها، وممارسة عنجهية القوة، وتهديدها إلخ… وقد صدرت بيانات من كلّ هذه الأطراف السابقة، ضد ترامب، يرفضون فيها تصريحاته، وتهديداته! ودون نسيان تهديداته إلى كوبا وفنزويلا!
إذن، لا يمكن فهم خطاب ترامب في هذا الجانب، إلا أنه معادٍ وعدوانيّ، ولا يمكن تحقيق ما يهدف إليه إلا عن طريق الحروب، وهو ما يتناقض مع خطابه الساعي إلى السلام ونبذ الحروب.
وعلى الجانب الآخر، فهو يطالب بإنهاء الحرب في أوكرانيا ويغازل بوتين، ويدعوه للجلوس، ويبدو أنّ ذلك في إطار صفقة «سورية/ أوكرانيا»، وهو الأمر الذي قد يقود إلى إنهاء مشاكل العالم في المنطقة العربية، وفي الشرق الأوسط، الذي يغلي بشدّة، ولا يعرف كيف يتمّ إطفاء النيران التي أشعلتها المؤامرة الأميركية/ الصهيونية/ التركية، وبغطاء أوروبيّ بطبيعة الحال، وبتمويل عربي/ خليجي مباشر!
وفي إقليمنا العربي، فترامب يعد بالحفاظ على اتفاقيات وقف النار في غزة، والذي شارك فيه، ووقف النار في لبنان، ويتحفظ على تولي الدواعش في سورية، وأنه ستتمّ تسوية أزمات الإقليم كلها، بصورة رومانسيّة، وغير واضحة المعالم، إلا ما سنراه منه في الأيام المقبلة. فهو يُصرّ على حَلْب الخليج العربي وخاصة السعودية، بصورة فجّة ومباشرة، ويُصرّ على مغازلة إيران، بأنها مجال خصب للاستثمار، وبأنه من الضروري حلّ المشكلة النووية والتغاضي عن الإصرار على امتلاك القنبلة النووية، وإعادة النظر في العقوبات المفروضة عليها إلخ..
أما عن مساندته للكيان الصهيوني، فهو يدعم فكرة التوسع الصهيوني، بضمّ الضفة الغربية، وتهجير الفسطينيين إلى الأردن، الذي إنْ لم يوافق، فإنّ إسقاط نظام الحكم هو الثمن، لكي يأتوا بمن ينفذ الأجندة! وكذلك التهجير الفلسطيني من غزة إلى مصر، في إطار صفقة القرن!
والخلاصة: فإنّ الإقليم المشتعل، لا يمكن لهذا الـ «ترامب» أن يفعل فيه ما يريد، وهو على ما يبدو «ظاهرة صوتية»، وسيحاول ترجمة ذلك قدر الإمكان ظاهرياً، دون تغييرات كبرى في الواقع العملي. فأزمات الإقليم أصبحت أكبر من طاقة الولايات المتحدة، التي تدخل مرحلة الانكفاء على الذات في عهد ترامب (السنوات الأربع المقبلة)، والاهتمام بالأوضاع الداخلية، في محاولة لإعادة بناء الأمة الأميركية، لأنّ التفاعل مع الأزمات العالمية، يكلفها الكثير. حيث سيجعل ترامب، من قوة أميركا أداة للحصول على المقابل، في مقابل حماية الأنظمة، والقادر على الدفع مثل دول الخليج وفي المقدّمة السعودية، ربما ينجو من الهيمنة الأميركية وسطوتها.
لقد ظهر ترامب، في خطابه، مغروراً، ومتجبّراً، وآمراً، ولا يقبل العصيان، أو الخروج عن الأوامر، وهي مقدّمات السقوط في مزبلة التاريخ. أما إقليمنا فله الله سبحانه وتعالى، بعدما تمزّق أكثر من اللازم!
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهوريّة مصر العربية