«إسرائيل» نحو معركة بين حروب
ناصر قنديل
يجتمع في الأداء الإسرائيليّ العسكريّ تحت سقف اتفاق وقف إطلاق النار في كل من لبنان وغزة، ما هو استراتيجي بما هو تكتيكي، ويبدو المستوى الاستراتيجي مثقلا بحقيقة لا يزال القادة في كيان الاحتلال يحاولون إنكارها، وجوهرها إن ما أتيح لهم في هذه الحرب لتصفية قوى المقاومة، من مدة زمنية ودعم أميركي مفتوح ومناخ غاضب بعد الطوفان بين المستوطنين وفي الجيش، وكمية القتل والتدمير دون مساءلة، غير قابل للتكرار. وأن ما لم يتحقق في هذه الحرب لن يتحقق في أي حرب مقبلة، كي تكون هناك حرب مقبلة، بخلاف المناخ الاستراتيجي الذي أعقب حرب تموز 2006 وحروب غزة المتتابعة، حيث كانت كلها فرصاً للتحضير للحرب المقبلة، وها هي قد جاءت، وما لم يتحقق فيها لن يكون قابلاً للتحقق بعدها.
لدى التدقيق في الاتفاقات التي وقع عليها قادة الكيان، يسهل القول إن كل ما يتصل بوهم القدرة على القضاء على قوى المقاومة قد سقط الى غير رجعة وهو كل يوم يزداد سقوطاً مع المشاهد التي تأتي من غزة وجنوب لبنان، حيث الكتل العسكرية الفلسطينية المنظمة والهائلة العدد والعدة، والصور والأعلام العائدة للمقاومة صارت تغطي الخط الحدودي مع فلسطين المحتلة. ومثل ذلك سقط الرهان على الاحتلال وقد تم التوقيع على الانسحاب الشامل من غزة وجنوب لبنان، وكذلك التهجير سواء لبناء منطقة عازلة في قرى الحدود اللبنانية، وقد دخلها الأهالي بتحدي أجسادهم لنيران الاحتلال، واجبروه على مغادرة أغلبها، والأهم هو التهجير من غزة الذي يرتبط بالهوية اليهودية لدولة الكيان والخلل الديمغرافي لصالح الفلسطينيين يتصاعد، بينما موارد الهجرة تتراجع. ومن فشل في احتلال غزة وتهجير سكانها، على مساحة 360 كيلومتراً مربعاً لا يحق له الحديث عن “إسرائيل” كبرى، ومن فشل في فرض إرادته على مقاومات لبنان وغزة لا يحق له الحديث عن “إسرائيل” عظمى، ومن صار ملاحقاً في كل أنحاء العالم بتهم الإبادة والجرائم وقتل الأطفال فقد أهليّته في الحديث عن “إسرائيل” العظيمة.
بالتوازي مع هذه الحقيقة الاستراتيجية حقيقة استراتيجية اخرى، قوامها أنّه بالقدر الذي يؤكد حاصل هذه الحرب استحالة شنّ حرب أخرى، ويجعل وجهة النقاش في الغرب نحو تثبيت “إسرائيل” عبر اعتراف عربي عنوانه التطبيع مع السعودية مع حل سياسي للقضية الفلسطينية قوامه قيام دولة فلسطينية، فإن “إسرائيل” تزداد تطرفاً بمتدينيها وعلمانييها وتنتج غالبية كاسحة تخنق أي فرص ولادة قيادة تلاقي المناخ العالمي والغربي الجديد. وهذا يعني أن الحراك العالمي سوف يبقى بلا قدمين إسرائيليتين، وأن أي شخصيّة تخاطر من داخل الكيان في معاندة الغلبة المتطرّفة سوف تلاقي مصير اسحق رابين، الذي اغتالته الجماعات التي تفرّع منها ثنائي ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
بخلفية هاتين الحقيقتين العجز عن التفكير بحرب مقبلة، والعجز عن ملاقاة أي مشروع حل سياسي، تبدو “إسرائيل” مرتبكة في تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في كل من لبنان وغزة، وراغبة في كل لحظة بخيار التملص، ولا يردعها إلا اليقين بأنها عاجزة عن العودة إلى الحرب. وبالمقابل عاجزة عن تقبّل حقائق الهزيمة التي يتمّ تصديرها من مشاهد غزة خصوصاً، وهي تدرك أن المقاومة في لبنان وغزة تملك الكثير من أسباب القوة، والقدرة على التخطيط والمناورة والصبر والبناء، ولا تستطيع “إسرائيل” التفرّج ولا التقاعد المبكر ولا الاستسلام.
ولدت نظرية المعركة بين الحروب لمثل هذه الحالات، وقد طبقتها “إسرائيل” بإتقان في سورية لعدة سنوات، على قاعدة لا ذهاب لحرب، ولا جمود في المكان، ولعل هذا ما يرجح أن يرسم شكل التعامل الإسرائيلي مع جبهتي لبنان وغزة خلال تنفيذ الاتفاقات وبعدها. ولعل هذا ما على قوى المقاومة بناء استراتيجية قابلة لتفكيكه وقادرة على إعادة الخلاصات الاستراتيجية لتتحكم بالمشهد.