يا شعب الجنوب الأسطورة: قدرك أن تبقى… وستبقى!
د. عدنان منصور*
رفيق الليوث، وتوأم النسور، يا رابضاً على القمم تتحدّى الزمان بعزة وشموخ… يا ساكن الأرض الطاهرة، آثرت أن تنحت الصخر بأظافرك، وأن تسقي كلّ حبة رمل بقطرات دمك الذكي، فكان لك مع الزمان لقاء، إذ وصلت في موعدك مع القدر… وكان لك على سفوح الجبال والسهول وطناً حراً تقبل منه السماء، ومن على قممه تعانق نور الإله وتحاكي القمر.
علّمتك الحقيقة أنّ النسور هم أمراء السماء… وأنّ النسور لا ترضى عن القمم بديلاً… وعلّمتك الحقيقة أنّ ملوك الأرض هم الليوث، وأنّ الليث لا يرضى بغير العرين خليلا… فاتخذت من قمم جبالك مقراً لأسرابك، ومن بطون جبالك وأوْديتك عريناً لمقاوميك حماة الديار، ومن سهولك مقابر للغزاة.
مذ آثرت أن يكون لك مكان تحت الشمس، كنت هدفاً لكلّ طامع، وصيداً ثميناً لكلّ غاصب. كنت التبر الوهّاج لكلّ لصّ، وكنت الغنيمة المستهدفة من كلّ طامع وقرصان ومحتلّ. عند الاستحقاق تجلّى معدنك الأصيل، وعند المحن أثبتّ للعالم كله أنك جدير بوطنك، وأرضك، ووجودك، وحقك في الحياة الحرة الكريمة.
أرادت جحافل المعتدين شذاذ الآفاق أن تلفّ الحبل على عنقك، وتخمد فيك الروح، وتصادر منك الحرية، والبسمة، والأمل، وأراد قتلة الأطفال، أعداء الفجر أن يضعوك تحت حجر الرحى ليطحنوك وما استطاعوا، فقاوم معدنك الأصيل حجرهم وفتته تفتيتاً.
أيّ نوع من البشر أنت يا شعب الجنوب المقاوم، وأيّ قوة، وإيمان، وعنفوان، وصمود، وبسالة، وبطولة تجسّدت فيك، صنعت منك أسطورة وحكاية ستردّدها الأجيال بكلّ فخر واعتزاز وإكبار!
كم مِن المرّات يا شعب الجنوب الصامد، دك نازيّو العصر، على رأسك المسجد والكنيسة، وكم من المرّات هدموا على رأسك البيوت، فكنتَ تخرج من تحت الركام مارداً أقوى، وإنْ ارتقى من معك شهيداً، كان لك مشعلاً يضيء وراية تحملها، وقصيدة تنشدها.
صادر منك الطغاة مجرمو الحروب، مغول العصر، سنابل القمح، وقطرات الندى، وأشبعوك الظلم والقهر، والعذاب والأنين… صادروا منك الحرية والكلمة الشجاعة، وأحرقوا لك الأزهار، وأغصان الزيتون، ونبتات التبغ، واقتلعوا الأشجار، ولم يستثنوا شيئاً لسرقته وهم الذين سرقوا وطناً بأكمله وهجروا شعباً بعد تطهير أرضه، ومع ذلك عادت على يديك أزهار الفلّ والزنبق والياسمين تنبت في ربيعك من جديد… تغذيها دماؤك الطاهرة المبلّلة بتراب الأرض، حيث أريجها الفوّاح يجري في فؤادك كمجرى الدم في العروق.
لقنت درساً قاسياً لأعداء الحياة، لصوص الأرض، وعلمت من حولك، كيف تحفظ الأرض، ويدافع عن سيادة الأوطان، وتصان كرامة الإنسان، فاستحققت وطناً عزيزاً جديراً بك وبنضالك. علّمتهم أنه بالمقاومة والشهادة لا توأد الأوطان، فاستحققت وطناً وأرضاً لا تعرف صكّ البيع أو الرهان أو الإيجار أو الاستسلام. علّمتهم أنّ الحرية عندك أغلى من الدم، وأنّ الكرامة والعزة قبل لقمة العيش.
كم هي حافلة بالمخاطر مسيرتك، ومقاومتك، واستمرارك، ووجودك… وكم من المرات وأنت في رحلة مشوارك الطويل حملوك ظلماً تبعات أهوائهم، واتهاماتهم، وأحقادهم، وظلمهم، وحقارتهم، ليجعلوا من المجرم القاتل ضحيّة، ومن الضحية جلاداً!
أراد المعتدون أرضك ممراً ومقراً لهم. أمعنوا تدميراً وقتلاً، واعتقالاً، وتهجيراً، ومع ذلك لم تطأطئ رأسك، ولم تُحنِ الهامة، فدفعت ضريبة شموخك وإبائك وتحدّيك، وتمسكك بأرضك وإنسانك.
جرمك يا شعب الجنوب الثائر، أنك تعشق الحرية وترفض الاستبداد والاستعباد، وتتطلّع الى فجر جديد. فجر لم يرق لعشاق الحروب والظلام، فكانوا كثراً، أياديهم غليظة، سيوفهم ملطخة مبللة بدماء الأحرار، وجوههم صفر، أرادوا أن يحجبوا عنك الشمس ولو لوقت، فكنتَ في كلّ مرة تخرج بعبرة تنصّ، وأسطورة تقصّ، فبقيت على الدوام للتاريخ درساً، ومثالاً وحكاية، وللأجيال أنشودة وترنيمة، ورواية.
مذ أن انطلقت لتقاوم المحتلّ «الإسرائيلي» قلت للعالم كله: هذه مقاومتي: هي لغتي ومعتقدي وكتابي وقلمي أدوّن بها أسفاري… هي وصية أمي وأبي وأمتي أن أدحر عدوي وأفكّ حصاري… هي أرضي، وتاريخي، وكياني، وأيقونتي، وشعاري… هي قوافل الشهداء تبيد في طريقها من يريد استعماري…
هي قبلتي ووجودي وبقائي، تسطر صفحاتها أخباري.
يا شعب الجنوب الأصيل إنّك مجد لبنان النابض الذي جسّدته، وصنته، واستحققته فعلاً لا وهماً، ببطولاتك، بدماء شهدائك الذكية، بتضحياتك، فكنت النجم الساطع الوهّاج، يضيء، يستمرّ ما استمرّت الحياة،
فبقيت وبقيَ إنسانك، وبقيت أرضك وسماؤك ولا عجب، فوجودك مع الفجر كان حقيقة، وحقيقتك استمرت مع الحياة ولم تمُت… هذا قدرك، وهو مِن صنعك أنت، لأنك آثرت أن تبقى، وستبقى…
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق