خطاب القَسَم والمثال السوري والدفاع الجوي
ناصر قنديل
يذهب بعض اللبنانيين بعيداً في عدائهم للمقاومة وحقدهم عليها، فيقولون أو يتوهّمون أن اتفاق وقف إطلاق النار والقرار 1701 لا يستقيمان دون نزع سلاح المقاومة، حتى عندما يقول الإسرائيلي إن سقف الاتفاق والقرار هو انسحاب المقاومة من جنوب الليطاني، كما قال مكتب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ويذهبون في التعليق على مواصلة الاحتلال للعدوان إلى القول إن ذلك لن يتوقف إلا حين يُسحَب سلاح المقاومة، فهل هذا صحيح؟
بمعزل عن معايير السيادة والكرامة الوطنية التي لا يجدي الحديث فيها مع أصحاب هذا المنطق، يكفي إلقاء نظرة على ما يجري في سورية، وفحص هذه النظرية، حيث لا وجود لمقاومة مسلّحة في سورية يجري استهداف البلاد بسببها، أو بحجة وجودها، وحيث ما حققه الحكم الجديد لأمن “إسرائيل” فشلت “إسرائيل” في عقدَيْن من تحقيقه، فأنهى الجيش السوري وأباح تدمير سلاحه، وأخرج إيران وحزب الله وقطع طريق إمداد المقاومة، وبدلاً من أن يلقى ردّ التحية بمثلها بكلام عن الاستعداد للانسحاب من الجولان السوري المحتل، قام رئيس حكومة الكيان باحتلال جبل الشيخ وقال إن الجولان باقٍ لـ”إسرائيل” إلى الأبد، ورغم صمت الحكم الجديد في سورية عن حق بلده باستعادة الجولان، لم يكتفِ الإسرائيلي بما فعل بل صار يجرّد كل مدة حملة توغّل لعدة كيلومترات داخل الأراضي السورية، وصولاً إلى عمق قريب من العاصمة، ولم تنفع محاولات أصدقاء الحكم الجديد من تركيا عضو الناتو مع قطر صديقة واشنطن، في وقف التوغّلات الإسرائيلية.
المثال السوري يقول للبنانيين، وخصوصاً كارهي المقاومة، إن هناك طريقة واحدة لتحقيق الاستقرار المستحيل للبنان ما لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية، حتى لو تحقق الانسحاب من جنوب لبنان، وبين نصّ خطاب القسم على تأكيد حق الدولة باحتكار حمل السلاح، وهي أن يكون لدى لبنان إضافة إلى صداقاته الدولية والعربية، جيش قويّ قادر يُحسَب له الحساب. وكما قال خطاب القسم إن هذا الحق يُترجم بأن تستثمر الدولة في جيشها، لصدّ الاعتداءات وتحرير الأرض، وهذه مهمة معقدّة ومكلفة مادياً وتحتاج إلى سنوات إذا توافرت العزيمة، ولذلك قال خطاب القسم بأن المطلوب مناقشة عامة لوضع استراتيجية للأمن الوطني يكون ضمنها خطة دفاعية سياسية ودبلوماسية واقتصادية وعسكرية. وهذه المناقشة تقرّر كيفيّة تأمين الحماية اللازمة للبلاد خلال المرحلة الانتقالية اللازمة لبناء الجيش القوي القادر.
المقاومة خلال هذه الفترة سوف تلتزم بضوابط تكون الدولة فيها صاحبة القرار، في كيف ومتى يكون اللجوء إلى السلاح لحماية لبنان، وعندما يكون الدور للسلاح متى وكيف يكون سلاح الجيش أو سلاح المقاومة. وكما تقول مرحلة تطبيق وقف إطلاق النار إن المقاومة لن تقوم بالمبادرة وتلقي الطعنات في الخلف، وما دامت الدولة تقول إنها مستعدّة للقيام بالمهمة فالمقاومة تقف خلفها، حتى تظهر الدولة أنها تحمّلت كامل المسؤولية ونجحت، ولم يعد ثمّة حاجة للمقاومة.
المهمة الراهنة لحماية لبنان ليست ببناء قوة برّية تواجه خطر التوغّلات الإسرائيلية، لأن لا قدرة لجيش الاحتلال على شنّ حرب برّية على لبنان بعدما تلقت قواته البرّية هزيمة يصعب إنكارها على يد المقاومة في قرى الحافة الأماميّة، وخلال سنوات كثيرة على الأقل سوف يكون ذلك بعيد المنال عن جيش الاحتلال، كما أن لبنان لا يحتاج إلى قدرة نارية توازن عمليات قصف تدميريّ كتلك التي شاهدناها خلال العدوان الأخير، وما لدى المقاومة كما أظهرته الحرب كفيل باختراق القبة الحديدية وبلوغ عمق الكيان، والوصول إلى غرفة نوم بنيامين نتنياهو وقلب تل أبيب، ومثل هذه الفرضيّة هي الأخرى مستبعَدة لسنوات.
التحدي الراهن هو أن يُقدم الاحتلال على تنظيم غارات جوية بين فترة وأخرى على مناطق لبنانيّة، بعد انسحاب قواته من القرى الأماميّة، تحسباً لنشوء مقاومة تُجبره على الانسحاب، ومنطق المقاومة اليوم يفسح المجال أمام مناخ سياسي جديد تكون الدولة في مقدّمته. وهذه فرصة لتوافق وطني يقول بأن المقاومة خلف الجيش عند الحاجة، والأرجح أن الحاجة هي حالة الحرب، وليست الاعتداءات المتفرّقة المرجّحة، وهذا يجعل مهمة الدفاع عن لبنان أشدّ بساطة تغني لبنان عن بناء جيش برّي مجهّز لمواجهة جيش الاحتلال، أو امتلاك قدرة ناريّة توازي قدرة جيش الاحتلال، وأن يعتمد على المقاومة للقيام بذلك ضمن التنسيق مع الجيش في حالة الحرب، لكن كيف يواجه لبنان، عبر جيشه هذه المرحلة من العدوان المتوقّع؟
يحتاج لبنان إلى قرار جدّي بامتلاك شبكة دفاع جوّي، وهذا النوع من السلاح أصلاً لا يمكن لغير الجيوش امتلاكه والتعامل معه، لأنه يحتاج الى بنى تحتية وأماكن انتشار وتموضع في القمم ومناطق مناسبة وفي نقاط عديدة، ونشر شبكة رادارات مرتبطة بصواريخ الدفاع الجوّي، وهياكل عسكرية لا تستطيع توفيرها إلا الدولة. وقد سبق للبنان أن سعى قبل الحرب الأهلية في السبعينيات من القرن الماضي، لامتلاك شبكة مماثلة، والمعضلة الوحيدة هي وجود الإرادة السياسية الشبيهة بتلك التي كانت لدى النظام اللبناني السابق وليس لدى المقاومة، للسعي لامتلاك هذه الشبكة، وليكن إعطاء الأفضلية للمنظومات الغربية، وفي طليعتها الأميركية، لكن عدم التوقف عندها إذا رفضت، وعدم الاستجابة للإملاءات إذا حاولت المنع، وإعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية بحماية لبنان، ولنتذكر أن تركيا عضو مؤسس في الناتو واشترت شبكة صواريخ اس اس 400، ومثلها فعل أصدقاء واشنطن في باكستان والسعودية ومصر، فلم لا يفعل لبنان؟