من كونفدرالية الطوائف إلى دولة الخبز والأمن والكرامة… كيف؟
د. عصام نعمان*
لبنان في أزمة كما سائر بلدان العرب في الهلال الخصيب والكئيب. الأزمة مزمنة، لعلها تعود إلى زمن تركيب كلّ الكيانات التي أفرزها اتفاق سايكس ـ بيكو في عشرينيات القرن الماضي. أسباب الأزمة متعددة، أبرزها ثلاثة:
ـ تعدّدية اجتماعية ومذهبية جرى توليفها في نظام طوائفي سياسي واجتماعي.
ـ تدخلات قوى خارجية طامعة ومتسلطة.
ـ تحوّلات اقتصادية واجتماعية ظلّت من دون معالجة صحيحة.
إذا ركّزنا بحثنا اليوم على لبنان نجد أنه يمكن تلخيص حصيلة الأسباب والعوامل السالفة الذكر بأنّ لبنان بات في حال اللادولة. ذلك أن ما يُسمّى دولة عندنا ليس سوى إطار أو هيكل إداري يضمّ موظفين ودوائر قلّما تقوم بموجبات الوظائف المنوطة بها.
لبنان اللادولة، من حيث هو في الواقع كونفدرالية طوائف وجماعات تتخالف وتتآلف، يواجه حاليّاً عدّة تحديات: أولها، انهيار اقتصادي ـ اجتماعي يمكن وصفه بضائقة معيشية شديدة تضجّ بحاجات ثلاث: الخبز والأمن والرعاية. ثانيها، خطر توسّع صهيوني متواصل مدعوم من الولايات المتحدة الأميركية. ثالثها، بروز دعوات متصاعدة بعناوين اللامركزية الإدارية والانفصال والفدرالية.
هذه التحدّيات تستوجب المواجهة… كيف؟
ثمة مقاربات عدّة في هذا المجال، لعلّ أوسعها وأكثرها جدّية دعوةٌ متعددة الأصوات لتوحيد القوى الوطنية التقدمية الحيّة العابرة للطوائف. غير أنّ تعدّدية المجتمع حالت وتحول دون تكوين حزب أو تكتل أحزاب أو جبهة وازنة ببرنامج سياسي ـ اقتصادي ـ اجتماعي متكامل لقيادة عمل وطني نهضوي فاعل وهادف الى بناء دولة مدنية توفر حكم القانون والعدالة والخبز والأمن والكرامة لمواطنيها وسكانها.
إلى أن تقوم جبهة أو ائتلاف قوى سياسيّة تنهض ببرنامج عمل يتضمّن أولويات المرحلة الراهنة والمستقبل المنظور، يتوجّب على القوى الوطنية التقدمية النهضوية رصد المشهد السياسي الراهن والتعاون مع الفعاليّات الإصلاحية المتوفرة بغية تفعيل حدٍّ أدنى على الأقلّ من مواجهةٍ فاعلة للتحديات سالفة الذكر كما للإصلاح السياسيّ أيضاً.
في هذا السياق، ثمّة فرصة سانحة للإصلاح السياسي بزغت مع انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتكليف الدكتور نواف سلام تأليف حكومة جديدة لكونهما غير مرتهنَين للقوى السياسية الطائفية والقوى الخارجية ومصممَيْن، كما يبدو، على عدم الخضوع لضغوطها.
يملك نواف سلام مفتاح المبادرة للإصلاح السياسي لكون السلطة الإجرائية (التنفيذية) منوطة بحسب الدستور بمجلس الوزراء، الأمر الذي يتيح له ترجمة المبادئ والصيغ الإصلاحية التي نادى بها قبل تعيينه سفيراً في الأمم المتحدة ومن ثم عضواً في محكمة العدل الدولية ورئيساً لها. صحيح أنه يصعب على القوى المنادية بالإصلاح السياسي الاتفاق على برنامج موحّد في هذا السبيل، لكن إدخال معظم إصلاحات وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) في متن الدستور سنة 1990 يسهّل الأمر لأنه يجعل من الصعب جداً على خصوم الإصلاح السياسي في البلد الجهر بمعارضتهم تنفيذ أحكام الدستور.
لعلّ أهمّ أحكام الدستور المعدّل تلك المستمدّة من وثيقة الوفاق الوطني وهي المواد 22 و 24 و95 التي تنصّ على إلغــاء الطائفيّة السياسيّة وترجمـــة ذلك عمليـــاً بـِ “انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي واستحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية (الطوائف) وتنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية”، و”وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي”.
يرى كثر من الإصلاحيين أنه آن الأوان ليغتنم نواف سلام فرصة تكليفه تأليف حكومة جديدة كي يعتمد تنفيذ مواد الدستور الثلاث السالفة الذكر في تشكيل الحكومة وصياغة بيانها الوزاري، وكذلك مراعاة إدخال مضامينها في نصوص مشاريع القوانين ذات الصلة لوضعها موضع التنفيذ.
قد يتذرّع خصوم إلغاء الطائفية السياسية بعبارة وردت في نصّ المادة 95 من الدستور حول “إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية” بغية إعاقة إقرار مشاريع القوانين الإصلاحية اللازمة في هذا السبيل. لكن أنصار الإصلاح السياسي يستطيعون الردّ على خصومه ومعارضيه بحجتين وازنتين مفادهما أن المادة 95 التي أشارت الى خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية وردت في سياق عملية تعديل الدستور وإقراره في مجلس النواب بتاريخ 1990/9/21 ولم يبادر أحد من المعنيين آنذاك إلى تشكيل الهيئة الوطنية المنصوص عليها في المادة المذكورة بغية تحقيق إلغاء الطائفية وفق خطة مرحليّة، فلا يجوز والحالة هذه التذرّع الآن بأيّ نصّ أو حجة لتبرير تقاعسهم عن الوفاء بهذا الموجب الدستوري بعد مرور 35 سنة. هذا مع العلم أنه من الممكن، بل من الضروري، اللجوء إلى نظرية الظروف الاستثنائية لإقرار إلغاء الطائفية السياسيّة بعد كلّ ما عانته البلاد من شرورها من جهة، وتعاظم المطالبة بضرورة إلغائها بإجماع القوى الوطنية الحيّة في البلاد من جهة أخرى.
إلى ذلك، تقتضي الإشارة الى أنّ إنشاء مجلس للشيوخ “تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية” ( الطوائف) بحسب نصّ المادة 22 من الدستور يعني في الواقع أنّ إلغاء الطائفية لا يجري تحقيقه دفعةً واحدة بل على مراحل، أيّ وفق خطة مرحلية ضمناً بحسب المادة 95 السالفة الذكر.
الأرجح أنّ الرئيس جوزاف عون كما غالبية أعضاء مجلس النواب لا يعارضون تنفيذ مضمون المادة 22 من الدستور التي تتيح انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي على أن يكون لبنان كله دائرة وطنية واحدة عملاً بأحكام المادة 27 من الدستور، نصاً وروحاً، التي تنصّ على أنّ “عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء”، إذ لا يُعقل أن يمثل الأمة جمعاء عندما يكون (النائب) منتخباً في دائرة ضيّقة غالباً ما تكون بحجم قضاء أو بجمع حيين في دائرة واحدة في مدينة كبرى كبيروت أو طرابلس. إلى ذلك، يُستحسن أن ينصّ البيان الوزاريّ في مطلعه على تنفيذ مضمون المادة 22 من الدستور ووضع قانون للانتخاب يشرّع إلغاء الطائفية السياسيّة تدرّجاً كما يُفهَم من منطوق المادة المذكورة.
غنيّ عن البيان أنّ نجاح الرئيسين جوزاف عون ونواف سلام في إلغاء الطائفية السياسية من خلال العملية الدستورية المنوّه بها آنفاً يكفل تسجيل اسمهما بأحرف من نور كأول رجلي دولة في تاريخ لبنان المعاصر تمكّنا من نقله من حال كونفدرالية كيانات ومزارع سياسية إلى دولة مدنية ديمقراطية يسودها حكم القانون، وتوفّر الخبز والأمن والكرامة لمواطنيها وسكانها.
*نائب ووزير سابق
[email protected]