تجليات الإرادة الشعبية في مظاهر السيادة الوطنية
المحامي سلمان بركات
يُعتبر موضوع السيادة من أدق المواضيع في القانون العام، وأكثرها حساسية داخل المجتمع اللبناني، حيث تشعّبت وتضاربت الآراء حول مفهوم السيادة، فذهب البعض إلى ترجمته وتحديده انسجاماً مع مصالحه السياسية، وما يخدمها. وذهب البعض الآخر إلى ممارسته كأفعال على أرض الواقع.
إنطلاقاً من أهمية هذا الموضوع في الحياة السياسية اللبنانية، رأينا أنه من المفيد معالجته بشكل علمي، موضوعي، متجرّد، علّنا نوفق إلى تقديمه على هذه الصورة، وتبيان بعض حقائقه العلمية.
لتحقيق هذه الغاية سوف نتناول على التوالي، تعريف السيادة، مصدرها، مظاهرها، الآثار المترتبة عنها.
أولاً ــ في تعريف السيادة
نعالج تحت هذا العنوان تعريف السيادة من حيث اللغة، ومن حيث المصطلح.
ــ السيادة لغة: هي من السيد، والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومُحتمل أذى قومه، والزوج والرئيس والمقدّم، وأصله من ساد يسود فهو سَيود، والزعامة والسيادة والرياسة. (صحاح اللغة، ولسان العرب).
خلاصة المعنى اللغوي للسيادة أنها تدلّ على المقدّم على غيره جاهاً أو مكانة أو منزلة أو غلبة أو قوة ورأياً وأمراً. والمعنى الإصطلاحي للسيادة يتضمّن بعض هذه المعاني.
والسيادة في الإصطلاح الفقهي: هي وصف للدولة الحديثة التي لها الكلمة العليا على كلّ مفاصل الدولة والأفراد ضمنها.
وضع علماء الفقه الدستوري تعريفات عديدة للسيادة. لن نعرضها جميعاً بل سوف نكتفي ببعضها بغية تسهيل فهمها وتوضيح معناها. فقد عرّفها البعض أنها «سلطة أصلية مطلقة غير محدّدة تهيمن على الأفراد والجماعات». وعرّفها بعض آخر بأنها «السلطة العليا التي لا تعرف فيما تنظم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها».
ويمكن القول إنّ السيادة الوطنية مفهوم يشير إلى منح سيادة مطلقة للشعب، أيّ أنّ السلطة بيد المواطنين الذين من شأنهم القيام بجعل الدستور يمنح السلطة لهم بشكل ثابت.
يقودنا ذلك إلى الحديث عن مصدر السيادة، ومن أين تتأتى.
ثانياً ــ مصدر السيادة
درجت العادة على أن يخلط البعض بين سيادة الدولة والسيادة في الدولة، والحقيقة أنهما شيئان مختلفان. فسيادة الدولة تعبّر عن الإرادة العامة لها، وهي أحد المقومات الأساسية في شخصية الدولة وتلتصق بها التصاقاً وثيقاً لا يقبل الانفصام، فالسيادة جزء لصيق بشخصية الدولة، وهي حقيقة مجردة عن صاحبها الذي تُسند إليه.
أما السيادة في الدولة فتدفعنا إلى معرفة الشخص الذي تُسند إليه هذه السيادة، والذي يعود له حق السلطة الآمرة.
تحملنا هذه الملاحظة إلى معالجة مسألة السيادة من ناحيتين، الناحية القانونية والناحية السياسية.
من الناحية القانونية، السلطة الآمرة تعود إلى الأفراد الذين خولهم الدستور هذا الحق.
وهذا الأمر هو عبارة عن شرعية محض شكلية يختص بها القائمون على السلطة.
لكن هذه الشرعية لا تكفي لمعرفة الأشخاص الذين يعود إليهم هذا الحق، لذلك لا بدّ من الأخذ بالناحية السياسية للسيادة، وطرق ممارستها، وتحديد أصل السلطة الآمرة السيادية، وهذا ما يُعرف بالشرعية السياسية.
أقرّت معظم النظريات السياسية والدستورية الحديثة أنّ أصل السيادة هو في الشعب، فالشعب مصدر كلّ سلطة شرعية وفي ذلك دلالة على الديمقراطية.
والسيادة لا تعني قسمتها على مجموع أفراد المجتمع كلاً بمفرده، إنما تعود للشعب أيّ للجسم الناخب الذي يعبّر عن نفسه عن طريق الانتخاب على جميع الأصعدة. وهذا المبدأ كرّسته معظم دساتير الأنظمة الديمقراطية، ومنها الدستور اللبناني الذي نص في الفقرة (أ) من مقدمته «لبنان وطن سيد حر مستقل…»، وأضافت الفقرة (د) من المقدمة «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية».
وأكدت ذلك المادة الأولى منه بنصها «لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة».
ولتحقيق هذا المبدأ لا يمكن للأعضاء الذين تُسند إليهم السلطة وممارسة السيادة أن يعبّروا عن إرادة الأمة والشعب السيد، ما لم يتمتعوا بحرية التصرف وأخذ القرارات التي تتعلق بإدارة مصالح الأمة والشعب على أن يبقوا على اتصال مستمر بالرأي العام.
(يراجع د. اسماعيل الغزال ـ القانون الدستوري والنظم السياسية ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ طبعة 1982 ـ ص 129).
إضافة إلى ذلك، ليست السيادة سلطة مطلقة تسمح للدولة القيام بكلّ ما لم يمنعه صراحة القانون الدولي فحسب، بل مشروطة بمعايير إنسانية واسعة تعطي لفكرة السيادة مفهوم «السيادة المسؤولة» ذلك أنّ الشرعية الحكومية التي تسمح بممارسة السيادة تستلزم الانسجام مع الحدود الدنيا للمعايير الإنسانية، والقدرة على التصرف بفعالية لحماية المواطنين من التهديدات الخطيرة على أمنهم وعيشهم الكريم.
(يراجع د. سعيد الصديقي ـ حقوق الإنسان وحدود السيادة الوطنية ـ المقدّمة).
وعليه، يمكن القول إنّ السيادة مصدرها الشعب وهو يمارسها عبر المؤسسات السياسية الدستورية بطريقة مسؤولة تنسجم مع معايير حقوق الإنسان في الحماية والأمن والحياة الكريمة. ويتجلى ذلك عبر مظاهر محددة. فما هي هذه المظاهر.
ثالثاً ــ مظاهر السيادة
تتجلى سيادة الدول عادة من خلال مظهرين، داخلي وخارجي.
ــ المظهر الداخلي: يتمثل بسيادة الدولة على سكان إقليمها سيادة سامية وشاملة، لا تعلو عليها أيّ سلطة أخرى أو تنافسها في فرض سلطانها وإرادتها على الأفراد والهيئات داخل حدودها.
ــ المظهر الخاجي: يتمثل ذلك بأن لا تخضع الدولة لأية دولة أخرى أو لسلطة أجنبية، بل تتمتع بالاستقلال التام والكامل في مواجهة بقية الدول، وتتعامل معها على قدم المساواة. وعندما تتوفر للدولة هذه السمات الخاصة بالسيادة لا سيما الخارجية منها، عندها تعتبر دولة كاملة السيادة، وإذا فقدت هذه السمات فإنها توصف بدولة ناقصة السيادة.
يترتب على مبدأ السيادة ومظاهرها أثاراً عديدة، فما هي؟
رابعاً ــ الآثار المترتبة على مبدأ السيادة
ينتج عن مبدأ السيادة آثار عديدة، أهمها.
وحدة السيادة، أيّ أنها غير قابلة للتجزئة، فلا يجوز التنازل عنها، ولا نقلها لجهة أخرى.
وهذا يعني أنه لا يجوز الرضوخ إلى احتلال غير مشروع لأيّ جزء من أرض الدولة. والسيادة في هذا السياق هي سيادة مطلقة ومجردة عن الأفراد المكونين لها.
ومسألة عدم تجزئة السيادة مرتبطة بمسألة اختصاص الدولة، وتظهر على وجه الخصوص عندما تمارس منظمة دولية أو إحدى المنظمات او الوكالات المتخصصة نشاطاً هو من صلب اختصاص الدولة، فهل يشكل ذلك انتقاصاً من سيادتها.
إنقسمت الآراء حول ذلك، فالبعض اعتبرها اجتزاء للسيادة والبعض الآخر رأى فيها توزيعاً لاختصاص يمارس وفق السيادة. لكنها في الحقيقة تشكل قيوداً لمبدأ سيادة الدولة.
يدفعنا كل ما سلف إلى الحديث عن أداء السلطة السياسية والممارسات الشعبية في التعبير عن السيادة الوطنية كآثار فعلية وواقعية لمبدأ السيادة الوطنية.
لن نتناول أداء السلطة السياسية في لبنان وتوافقها مع مبدأ السيادة أو لا، ذلك أنّ التدخل الخارجي في تكوين السلطات الدستورية واختيار الرؤساء ظاهر وجلي، لا يحتاج إلى الكثير من الشرح والتفصيل، وكذلك الحال بالنسبة للتدخل في تمثيل بعض القوى السياسية في السلطات الدستورية، سواء من هذه الفئة أو تلك، وغير ذلك كثير. لكن ما تجدر الإشارة إليه أنّ الإرادة الشعبية تتجلى في مظاهر السيادة الوطنية اللبنانية بأبهى تجلياتها في كثير من الأحيان. وآخر هذه التجليات كان الإصرار الشعبي من سكان الجنوب وغيرهم على إجبار العدو الصهيوني عل تنفيذ القرار 1701/ المتعلق بوقف إطلاق النار بعد الحرب الهمجية التش شنها على لبنان، والإصرار على انسحابه من القرى التي احتلها بعد انتهاء مهلة الستين يوماً التي نص عليها الاتفاق المذكور، ومواجهة الشعب لمحاولات بقاء العدو في تلك القرى بمواكبة من الجيش اللبناني الذي فتح الطرقات أمام المواطنين يؤكد حيوية هذا الشعب وقوة عزيمته في المحافظة على الأرض وعدم التفريط بأيّ شبر منها انسجاماً مع المادة الأولى من الدستور اللبناني التي تؤكد على أنّ لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة.
ومع المادة الثانية من الدستور أيضاً التي تنص على أنه «لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنها».
وهكذا تتجلى الإرادة الشعبية في مظاهر السيادة الوطنية اللبنانية بأبهى وأجمل وأنصع تجلياتها. ويجسّد الشعب اللبناني حفظها بدمائه وبالتضحية بكلّ ما يملك…