نقاط على الحروف

أن تكون أميركياً يعني أن تكون إسرائيلياً

 

ناصر قنديل

 

لم يتغيّر حجم التمسك الأميركيّ بقوة “إسرائيل” وأمنها والدفاع عنها وتمويلها وتسليحها ومنع ملاحقتها، طوال عقود مضت، لكن “إسرائيل” كانت قويّة إلى درجة تتحمّل معها وتحتاج فيها إلى أميركا تختلف معها، وتتمايز عنها، فكانت “إسرائيل” قويّة إلى حدّ لا يضرّ بها وبسياساتها وبمصالحها أن تقول واشنطن إنّها تعارض توسّع الاستيطان في الضفة الغربية وإنّها تنتقد تغيير وجه القدس الشرقيّة وتهويدها تحت شعار رفض الإجراءات الأحاديّة في القدس، طالما أن واشنطن لا توقف التمويل والتسليح ولا تعاقب تل أبيب ولا تسمح لأحد بإدانتها، خصوصاً على مستوى المؤسسات الأمميّة. فقد كان الانتقاد رصيداً يُستخدم لتقديم الحماية من جهة، لكنه في الأساس الرصيد الذي تحاكي عبره واشنطن ما سُمّي بـ الاعتدال العربيّ، الذي يهيمن على القرار الرسمي العربي والذي يقول إن واشنطن صديقة للعرب ووسيط نزيه في التفاوض بين العرب و”إسرائيل”، وإن خيار المقاومة مُحرج في العلاقة مع واشنطن ويضعف فرص الاستفادة من ضغوطها المفترضة على “إسرائيل” للسير بالسلام وفق المبادرة العربية للسلام أو أغلب بنودها.

ما يقوله وما يفعله الرئيس دونالد ترامب لا يختلف جذرياً عما قاله وفعله الرئيس جو بايدن خلال حرب طوفان الأقصى، دون إقامة أي حساب لردّ الفعل العربي، ودون أن تأبه لمصير الفريق الفلسطيني الذي ربط مصيره بالتفاوض والمبادرات الأميركية، وارتضى التحوّل إلى أداة أمنية لملاحقة المقاومة خدمة للاحتلال كطريق لإثبات إخلاصه لخيار التفاوض. والسبب يعود إلى أن ما لحق بـ”إسرائيل” جراء الحروب التي خاضتها ضد حركات المقاومة في لبنان وفلسطين خصوصاً خلال ربع قرن، قد أدّى إلى تراجع القوة الإسرائيليّة وإلحاق إصابات بنيويّة بمصادر القوة، ولم يكن نموّ تيارات اليمين المتطرف إلا علامة هذا التراجع، بعدما صار فشل جيش العدو في القضاء على حركات المقاومة شمالاً وجنوباً أمراً مكرراً، وهو ما أعادت تأكيده الحرب الأخيرة التي شكلت أطول حروب “إسرائيل” وأصعبها وأقواها، لكن دون أن تتغير النتيجة، ذلك أن الخسائر الضخمة التي لحقت بالفلسطينيين واللبنانيين شعباً ومقاومة، لم تمنح “إسرائيل” فرصة تثبيت الاحتلال والتهجير وإنهاء المقاومات، حتى وجدت أنها مضطرة للتوقيع على اتفاقات تكرّس الانسحاب وعودة النازحين وتتجاهل بقاء السلاح بيد المقاومة.

بسبب ذلك انتقل الحديث عن حل الدولتين ووقف الاستيطان من أداة لتقسيم العرب والفلسطينيين، بين مؤيد للتفاوض ومؤيد للمقاومة، والدفع بهذا الانقسام إلى حد الاقتتال كما رأينا مراراً، ليصير كل حديث عن دولة فلسطينية ولو إعلامياً ولو كان الثمن المقابل بحجم التطبيع مع السعودية، بمثابة تهديد وجودي لـ”إسرائيل”، فقد التجأت “إسرائيل” بعد سقوط خطاب الحرب لدى الدولة والجيش إلى الاحتماء بـ العقائديين الذين يؤمنون بأن الضفة الغربية والقدس الشرقية قلب أرض الميعاد التي لا يمكن النقاش بالتنازل عنها. وصار التساكن بين هؤلاء العقائديين ومؤسسات الجيش والأمن والعلمانيين في المجتمع مشروطاً بامتناع واشنطن عن الاستثمار على معادلة التمايز عن “إسرائيل” والمضي بطرح حل الدولتين، وبعدما سقطت “إسرائيل” الكبرى بسقوط الاحتلال والتهجير وسقطت “إسرائيل” العظمى بالعجز عن القضاء على حركات المقاومة، وسقطت “إسرائيل” العظيمة بسيادة صورة الإجرام والتوحّش المرافقة لصورة “إسرائيل” في الغرب، صارت “إسرائيل” الصغرى ملاذ البقاء الوحيد وقلبها الضفة الغربية. وبعدما فشل الجيش وعجز المستوطنون في حرب حماية “إسرائيل”، كان لا بدّ من أن تحضر أميركا مباشرة، حيث تولّت عمليات الاغتيال والضربات الأمنية الكبرى التي استهدفت قوى المقاومة، وجلبت بطاريات الصواريخ وقامت بالتصدّي للردود الإيرانية، وقاتلت في البحر الأحمر نيابة عن “إسرائيل”، حتى سقط هامش التمايز بين واشنطن وتل أبيب نهائياً، وصار ما يصدر عن “إسرائيل” صالحاً للتبني دون تدقيق في واشنطن.

هذا التماهي الناجم عن مأزق “إسرائيل” الوجوديّ، يعني أن العربي الذي يريد أن يحمل الهوية الأميركيّة دولياً يجب أن يدرك أنه مُطالَب بحمل الهوية الإسرائيلية إقليمياً، فيصفق لتهجير غزة وضمّ الضفة الغربية وضمّ الجولان، وتوطين الفلسطينيين المهجّرين من غزة في مصر وبالتأكيد من بعدهم توطين الفلسطينيين المهجّرين من الضفة الغربية في الأردن، وقطعاً بعد ذلك توطين الفلسطينيّين المهجّرين من الأراضي المحتلة عام 1948 في لبنان، بالإضافة للاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان اليوم، فما كان يصلح في الماضي كأن تقول أنا تحت السقف العربي أؤيد المبادرة العربية للسلام والسلطة الفلسطينية وأخالف حركات المقاومة حول جدوى ما تقوم به وأرى الدبلوماسية والتفاوض سبيلاً ناجحاً، لم يعُد صالحاً اليوم، فما عليك إلا أن تخرس إو أن تقول إنك إسرائيلي تؤيد قتل شعبك وتشريده وترتضي العبودية لرب واحد في المنطقة هو “إسرائيل”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى