أخيرة

وطن للبيع … فمن يشتري؟*

 

المثقف العربي بين هارب أو مأجور…
لم يعدِ الزمن العربيُّ رديئاً، صار إلى الأسوأ يوم سقط مثقّفوه في الهاوية. فالزمن الرديء يمكن أن تتجاوزه، أو تكفر به، أو تصنعَ غيره، تماماً كما جرى في أوائل القرن التاسع عشر عندما راح المثقفون العرب ينفضون الغبار عن تراث أمتهم العريق، ويحتكّون بحضارات أخرى، متخطين كلّ الاعتبارات الهامشية، والطائفية، والمذهبية، والعشائرية، والفئوية، التي فرضها العقل العثمانيّ المتحجّر.
ونجحوا…
وكانت أسماء رائدة… بدءاً بالبساتنة واليازجيين، وانتهاءً بجبران والريحاني، دون أن ننسى خليل سعاده وقاسم أمين ومحمد عبده والكواكبي وغيرَهم كثيرين.
أصوات هؤلاء الأفذاذ ارتبطت بميثاق شرف تميّز برؤية واضحة، وشفافية دافئة، واستقامة وجرأة نادرتين بغية الخروج من النفق، بغضّ النظر عن الثواب والعقاب اللذين يحكمان اليوم جمهور المثقفين.
مثقفو اليوم، في العالم العربي، إمّا مأجورون للنظام الحاكم، أو موظّفون في دائرة إعلامية مغلقة، أو هاربون من النظام إلى أيّ مكان. وإنْ لم يجدوا المكان هربوا إلى الصمت، دون أن يتذكّر أحد منهم أنّ عبقرية الفكر لا تتجلى إلا بالاستشهاد من أجل الخير العام؛
وأنّ الفكرة الحيّة لا تستمرّ إلا إذا صُلب صاحبها، وجُلد، ودخل أقبية العذاب والموت.
مثقفو اليوم تناسَوا ـ لم ينسَوا بل تناسَوا ـ سقراط، وابن المقفّع، والحلّاج، وأنطون سعاده، وقنعوا بترف الكلمة التي ما دخلتْ عصباً إلّا دجّنته، وخدّرته… ثمّ قتلته!
وإلّا كيف نفسّر ما يجري، وما جرى، في العراق، والكويت، والسعودية، وبقيّة بلدان الخليج؟ بل كيف نفسّر ما يجري في جنوب لبنان؟ حيث لـ «إسرائيلَ» المتألّهةِ سلطةُ القرار محمياً ومباركاً من قبل الأمم المتحدة، حتى لا أقول الولايات المتحدة الأميركية.
ورغم ذلك، بل على الرغم من كلّ ذلك، لا يزال كتّابنا عاجزين عن رؤية الأمور من الزاوية القومية الصحيحة. لم يدركوا بعدُ أنّ مسؤوليتهم هي في التحريض ضدّ كلّ الديكتاتوريات التي أوصلت العالم العربي إلى حالة من الفراغ السياسي والاقتصادي والقومي لا مثيلَ له في تاريخنا المعاصر.
فثروة العراق دُمّرتْ ولا تزال تدمّر، وثروة الكويت مصادرة إلى أجل غيرِ منظور، ومصرُ والجزائر تعمّهما الفوضى، ولبنان مفخّخ، والصراع بين المغرب وموريتانيا أو بين السعودية واليمن صراع مفتوح على كلّ الاحتمالات.
وضمن هذه البانوراما، تجري مفاوضات السلام… فيقف مفاوضو دول الطوق وحدَهم مجرّدين من أيّ عمق استراتيجي ومالي وفكري… وحتّى قومي!
ما المطلوب في هذه المرحلة الدقيقة؟
ببساطة… أن تتحوّل الأقلام إلى رماح، أن يصبح للمثقّف دورٌ حقيقيّ على طاولة المفاوضات، فيستقيل من خدمة الأنظمة. فالعالم العربي لا يخلو من المبدعين، لكنّ الإبداع هو إسفاف إذا كان هدفه خدمة الشخص أو النظام؛
مطلوب، بكلّ بساطة، أن نقول الحقيقة.

*«وطن للبيع … فمن يشتري»؟ الكتاب الذي أصدرته عام 1995، وفيه قراءات في السياسات العربية بين عامي 1993 ـ 1994، واليوم، بعد أن نفدت الطبعة، قرّرت أن أنشره في زاويتي من جريدة «البناء»، لما في المقالات من حقائق نعيشها اليوم بعد ثلاثين عاماً من صدور المؤلَّف.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى