لبنان أمام اختبار السيادة والاستقلال في العهد الجديد: هل تصمد الحكومة أم تخضع للضغوط…؟

فراس رفعت زعيتر
بعد انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة القاضي نواف سلام، دخل لبنان مرحلة سياسية جديدة تحمل معها الكثير من التحديات والاختبارات الصعبة. لكن، بعيداً عن الاحتفالات بتشكيل السلطة التنفيذية وتهليل البعض لذلك، فإنّ العهد الجديد يواجه ضغوطاً هائلة، داخلية وخارجية، تهدف إلى تقييد قراره وفرض شروط قاسية عليه.
الولايات المتحدة والعدو الإسرائيلي يقودان حملة سياسية واقتصادية وأمنية لإضعاف المقاومة في لبنان، وهذا ليس أمراً جديداً، لكنه اليوم يأخذ أشكالاً مختلفة، سواء عبر استمرار الاحتلال الإسرائيلي لبعض القرى والبلدات الجنوبية، أو من خلال ابتزاز لبنان اقتصادياً وربط إعادة إعمار ما دمرته الحرب بشروط سياسية تمسّ بسيادته. هذا الضغط يأتي بعد العدوان الإسرائيلي الأخير الذي لم تنتهِ مفاعيله بعد، حيث يواصل العدو الإسرائيلي التهرّب من تنفيذ القرار 1701 الذي ينص على انسحابه من الأراضي اللبنانية المحتلة ووقف اعتداءاته على لبنان، التي لا تزال شبه يومية، فيما تمارس الإدارة الأميركية دوراً واضحاً في عرقلة أيّ حلّ، وتقديم الغطاء السياسي لاستمرار الاحتلال.
وسط هذه الضغوط، جاء قرار الحكومة اللبنانية بمنع طائرة إيرانية من الهبوط في مطار بيروت، بحجة أنها تحمل أموالاً، الأمر الذي أثار تساؤلات حول مدى استقلالية القرار اللبناني، وما إذا كان مرتبطاً بتهديدات إسرائيلية أو بضغوط أميركية. الحكومة برّرت قرارها بأنّ الإسرائيليين هدّدوا بقصف المطار في حال سُمح للطائرة بالهبوط، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل بات لبنان يُدار وفقاً للتهديدات الإسرائيلية؟
المفارقة أنّ رئيس الحكومة نواف سلام لم يكتفِ بتبرير القرار بتهديدات العدو، بل ربطه أيضاً بالعقوبات الأوروبية على الطيران الإيراني، وهو تبرير لا يصمد أمام الواقع، إذ إنّ الطيران الإيراني لا يزال يهبط في مطارات دول مثل الإمارات وقطر وتركيا، وهي دول على علاقة جيدة بأوروبا، بل وتعتبر شريكة لها اقتصادياً وسياسياً. فهل يحق لـ «إسرائيل» أن تفرض شروطها على لبنان وحده؟ ولماذا لم نشهد رداً لبنانياً واضحاً على التهديدات الإسرائيلية لمطار بيروت، الذي يُعتبر منشأة مدنية سيادية، تماماً كما هو مطار دبي أو الدوحة أو إسطنبول؟
الأخطر من ذلك أنّ هذا القرار لم يكن مجرد إجراء إداري، بل تحوّل إلى أزمة سياسية انعكست على الشارع اللبناني، حيث خرج المواطنون للاحتجاج، معتبرين أنّ ما حصل خضوع واضح للإملاءات الخارجية. وكان لافتاً أنّ الجيش اللبناني وُضع في مواجهة المحتجّين، ما كاد يؤدّي إلى فوضى غير محسوبة العواقب، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول الهدف من زجّ المؤسسة العسكرية في قرارات سياسية مثيرة للجدل.
هذه التطورات تتزامن مع ضغط آخر تمارسه الدول المانحة، التي تربط تقديم المساعدات المالية لإعادة الإعمار بشروط تستهدف المقاومة وجمهورها، وهو ما يعني أنّ عشرات آلاف العائلات التي فقدت منازلها بفعل العدوان الإسرائيلي قد تُترك بلا مأوى فقط لأنّ بعض الأطراف تريد استخدام معاناتهم لتحقيق مكاسب سياسية. وهنا يُطرح السؤال: هل ستقبل الحكومة اللبنانية أن تكون جزءاً من هذه اللعبة؟ وهل سترضى بأن تستخدم إعادة الإعمار كورقة ضغط على أكثر من ثلث الشعب اللبناني؟ إنّ الأمر لا يتعلق فقط بحقوق المواطنين في السكن والحياة الكريمة، بل بمصير لبنان كدولة ذات سيادة، فإما أن تثبت الحكومة أنها حكومة لكلّ اللبنانيين، ترفض الخضوع للابتزاز السياسي، أو تتحوّل إلى مجرد أداة لتنفيذ أجندات خارجية تهدد مستقبل البلاد.
وفي خضمّ هذه التحديات، يبرز دور الجيش اللبناني، الذي لطالما كان صمام أمان لجميع اللبنانيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والطائفية. لكن ما جرى مؤخراً من وضع المؤسسة العسكرية في مواجهة المحتجّين يهدّد هذا الدور، ويثير مخاوف من محاولة زجّ الجيش في صراعات سياسية لا تخدم استقراره. المطلوب اليوم أن تحافظ الحكومة على حيادية الجيش واستقلاليته، وألا تجعله أداة لتنفيذ سياسات تمسّ بالسيادة الوطنية، لأنّ أيّ خطوة في هذا الاتجاه ستؤدّي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي في وقت لا يحتمل فيه لبنان المزيد من الأزمات.
رغم هذه الضغوط والاستفزازات، فإنّ حزب الله حتى اللحظة يتعاطى بإيجابية مع الحكومة الجديدة، وظهر ذلك بوضوح في تصريحات أمينه العام سماحة الشيخ نعيم قاسم، الذي شدّد على ضرورة إعطاء الحكومة فرصة للعمل وعدم استباق الأحداث بالحكم عليها. الحزب لعب دوراً أساسياً في تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، رغم كلّ التعقيدات السياسية، في موقف يعكس رغبة حقيقية في إنجاح العهد الجديد، لكنه في المقابل ليس مستعداً للبقاء في موقع المتفرّج إذا ما استمرّت الحكومة في اتخاذ قرارات تتماهى مع الضغوط الخارجية على حساب سيادة لبنان ومصلحة شعبه.
الكرة اليوم في ملعب الحكومة، وهي أمام اختبار صعب يحدّد مستقبلها السياسي. فهل ستتمسك بحقّ لبنان في قراره المستقلّ، أم ستسمح للضغوط الخارجية برهن مصير اللبنانيين للمساعدات المشروطة؟ الشعب اللبناني لن يقبل بأن يكون رهينة لابتزاز سياسي واقتصادي، ولن يسمح لحكومته بأن تتحوّل إلى أداة لتنفيذ أجندات خارجية. الخيارات محدودة، والمسؤولية كبيرة، لكن القرار النهائي يبقى في يد رئيس الحكومة وفريقه: إما أن يكونوا حكومة سيادة وطنية، أو أن يتحوّلوا إلى حكومة تنفيذ إملاءات خارجية، وعندها سيكون المستقبل أكثر تعقيداً مما هو عليه اليوم…