الجغرافيا السياسية الجديدة لأوروبا

أوروبا الموحّدة التي تشكل قطباً عالمياً مستقلاً، كما أرادها الجنرال شارل ديغول لم تولد بسبب الفيتو الأميركي على ولادتها، تمسكاً بأوروبا الغربية آنذاك مجرد حديقة خلفيّة لأميركا الصاعدة على أنقاض أوروبا التي دمّرتها الحرب العالميّة الثانية، ولعل إطاحة ديغول بثورة تشبه ما يصفه دونالد ترامب اليوم بالليبرالية اليسارية كانت عقوبة أميركيّة لديغول على مشروعه الاستقلالي.
الاتحاد الأوروبيّ بعد نهاية الحرب الباردة كان مولوداً أميركياً بامتياز باعتباره الوعاء اللازم لاحتواء نصف أوروبا الشرقي الخارج من الاتحاد السوفياتي، وتقديم المغريات له للتقرّب من حدود روسيا، على حساب اقتصادات أوروبا الغربية القوية، تمهيداً للانقضاض عليها، كرجل مريض يمكن عبر تقاسم مغانم السيطرة عليه أن يعوّض الاتحاد الأوروبي خسائر استثماره على أوروبا الشرقية ويحقق الأرباح.
خسرت أوروبا القديمة أي الغربية، صناعاتها الغذائية وزراعتها وصناعتها النسيجية والاستهلاكية بانفتاح أسواقها أمام أوروبا الشرقية حيث اليد العاملة رخيصة والمنتجات الزراعية رخيصة، وبقيت الصناعات الثقيلة التي تسببت حرب أوكرانيا والحماقة الأوروبية خلالها بحرمانها من النفط والغاز من روسيا، فهاجر الكثير منها إلى أميركا.
للمرة الأولى تواجه أوروبا تحديات وجودية في الجغرافيا السياسية، حيث روسيا تتفوّق على خطط إسقاطها وتستردّ زمام المبادرة، وأميركا تقرر الذهاب لمصالحة روسيا دون أوروبا، وتقرّر الخروج عملياً من التحالف المصيري، وتضع مصالحها المالية والاقتصادية في ميزان إعادة رسم علاقاتها بأوروبا.
في داخل الدول الأوروبية الكبرى خصوصاً ألمانيا وفرنسا تساؤلات شعبية عن جدوى المضي في الحرب الأوكرانية والانفراد بتحدّي روسيا دون دعم أميركي، وحراك سياسي شعبي يميني يدعو لتخفيض مستوى الاندماج في كيان أوروبيّ واحد، تتحمّل فيه الدول الغنية أعباء الدول الفقيرة، وكلام شبيه بكلام ترامب عن أولويّة إنعاش الاقتصاد والحماية الجمركيّة.
مشكلة أوروبا إذا مضت في الحرب وحدها أنّها سوف تهزم وحدها، وتتفكّك وربما يلتحق بعضها بروسيا الجديدة، وإذا خرجت من الحرب والتحقت المسار الأميركي الروسي فسوف تفعل ذلك من موقع الضعف والتهميش وتتفكك أيضاً، أما إذا دقت ساعة التغييرات فإن التفكّك سوف يكون قراراً وشعاراً للتغيير.