القمة العربية والدرس الأوكراني

سعادة مصطفى أرشيد*
لطالما مثّل الأمن القومي في بلادنا مسألة بحثية وسياسية مركزية، وكانت نقطة ضعفها الأخطر أن لا وجود للدولة القومية، وإنما حالة تجزئة أفرزت الدويلات التي فرضها علينا الأجنبيّ وجعلت من مصالح الأمن القومي مصالح أمن وطني أصغر لأجزاء من الأمة، وهي تلك المصالح التي طالما تعارضت بين الأجزاء، ولم تكن تصمد أمام مصالح الحاكم في هذا الجزء أو ذاك من جسد الأمة الممزق، وقد تطلب السعي لتحقيق الأمن الوطني الدخول في تحالفات ومحاور متغيرة، حيث يستبدل حليف بآخر أو في الدخول في توازنات، ولكن الثابت أنه وبرغم حالة التجزئة هذه إلا أن دولة قوية نسبياً قد وجدت أنها تملك الوعي في الحفاظ على أمنها وتطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية وفي إيمان مواطنيها بمشروعيتها من خلال اختراع الهويات الفرعية، سواء كان المواطن موالياً للحاكم أو معارضاً له.
ارتبطت حالة التجزئة وترافقت بالارتباط مع مَن أجرى العملية الجراحية التي عرفت باسم سايكس – بيكو وهو الغرب الاستعماريّ بتطوراته، وكان لا بدّ لهذا الواقع من أن يدفعنا نحو انحدار الدائم ينتهي بوصولنا إلى ما نحن فيه من ضعف وهوان. وهذه المسائل قد لا تكون حكراً علينا فقد سادت في كثير من دول الجنوب أو العالم الثالث وفق التصنيفات التي سادت في عصر القطبية الثنائية، ولكن وضعنا ووضع العالم العربي امتاز بحالة أكثر سوءاً وأسرع بالتدهور ففقدنا فيها حتى الأمن الوطني الجزئي وانتهى عصر الدفاع عن الدولة المنفصلة عن المجموع القومي ومصالحها واستبدل ذلك بأمن الحاكم وبقائه ووضع كل مقدرات الدولة والمجتمع في جيبه وجيوب أسرته وما يفيض عن ذلك في جيوب حاشيته المقرّبة. هكذا تحلل المجتمع وانهار الاقتصاد وأصبح لا يعتمد على موارده الوطنية ودخل في عصر الاعتماد شبه التام على الهبات والقروض المشروطة لصالح الواهب والدائن وافترض الحاكم أنه بهذا الرهان يستطيع أن يحصل على الدعم الخارجي وأن هذا الدعم هو مصدر بقائه.
لكن هؤلاء الذين ضحّوا بالكرامة القومية والمصالح العليا في خدمة الأجندات المعادية سرعان ما كان يتمّ التخلي عنهم لصالح من أنتجوه من طفيليين أسوأ وأكثر خضوعاً منهم، فهؤلاء ليسوا حتى بمستوى مَن صنعتهم سايكس – بيكو الذين جعلوا من بلادنا قواعد عسكرية مفتوحة للعمل ضد مصالحنا. وهكذا تتواصل الحلقات من سيّئ إلى بشع إلى أبشع، ومن غريب أمرهم أنهم لا يقرأون التاريخ القديم، ولا يتابعون الأحداث المعاصرة، فلم يقرأ هؤلاء تجربة الخديوي إسماعيل الذي رهن مصر وباع قناة السويس تحت ضغط الديون وعلى أمل أن يخسر مصر ويربح العرش، أو الديكتاتوريات في أميركا اللاتينية كذلك لا تتابع المثل الحي الذي يتفاعل اليوم في مشاريع الرئيس الأميركي الجديد سواء في المكسيك أو بنما وكندا أو في غزة وفلسطين والهادفة إلى شطب مسألة فلسطين ودفنها، بحيث لا يتبقى منها لا أرض ولا شعب، مصادرة وتهجيراً، وبالأسلوب الذي عبّر عنه دونالد ترامب عندما سئل عن سبب استئناف إرسال القنابل إلى (إسرائيل) بالقول إنه على قناعة تامة بأن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال القوة أي أنه يقول بشكل غير مباشر إنّ السلام لا يمكن أن يتحقق إلا بدعم (إسرائيل) لاستكمال مجازرها في غزة التي لم يبقَ فيها من أهداف سوى المدنيين، الأمر الذي سيحصل في محاولة لإنجاز مشروع التهجير، ولكن بعد أن يستكمل العرب خضوعهم وإنْ ببيانات قوية اللهجة غير مترافقة مع أي فعل جدّي، وبعد أن تستكمل (إسرائيل) عملية استرداد أسراها أو في حال وصلت طريق المفاوضات لاسترداد الأسرى إلى طريق مسدود.
الشاهد الحي الذي لا تلاحظه الفئات الحاكمة هو ما يجري مع أوكرانيا ورئيسها زيلينسكي الذي نفذ الأجندة الأميركية ضد روسيا بحذافيرها غير مبالٍ بمصير شعبه ومصالحه التي لا يمكن لها أن تستقيم دون العلاقة مع الجار الروسي الذي فرضته عليه لعنة الجغرافيا، فقبل حوالي عام كان هو الرجل هو البطل الذي يتمّ تكريمه في الكونغرس الأميركي ويستقبل أفضل استقبال في البيت الأبيض، أما اليوم فقد تمّ التخلي عنه. فالرئيس الأميركي يقول إن على زيلينسكي أن يدفع نصف تريليون دولار تعويضات للإدارة الأميركية، وأنه قد أصبح رئيساً غير شرعيّ بعد استنفاد فترة حكمه الدستوريّة، وبالتالي لا بدّ من انتخابات يتحدّد بوجبها مَن هو الرئيس الشرعيّ لأوكرانيا، فيما يصف الرجل الأقوى في واشنطن إيلون ماسك زيلينسكي بأنه قائد فاسد وتافه لا يهمه سوى سرقة الأموال والبقاء في السلطة،. وفي غالب الأمر إن قمّة الرياض بين بوتين وترامب في نهاية الشهر ستكون إعلاناً عن شطب هذا الرجل التافه حقاً. وهنا الدرس الذي يجب على من يهمّه الأمر أن يتعلمه ويأخذ منه الموعظة.
في عمليّة حسابيّة سهلة يستطيع حتى العقل العادي إجراءها يمكن إدراك أنّ الدفاع عن المصالح العليا للشعب والدولة يوفر إمكانية الصمود والبقاء أكثر من الاعتماد على الخارج الذي لا تحكم علاقته بالحاكم الضعيف معايير الوفاء والصداقة الشخصية أو قيَم حفظ الجميل.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين – فلسطين المحتلة