التقارب الأميركيّ الروسيّ

ناصر قنديل
بصورة لم يمهّد لها مهندس استراتيجيّات مثل هنري كيسنجر الذي قاد التقارب الأميركي مع الصين في نهاية سبعينيّات القرن الماضي، تمّ التقارب الأميركيّ الروسيّ بحركة واحدة قرّرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وربما يتبعها تقارب أميركيّ صينيّ مشابه، بعد تحذيرات ترامب لتايوان المماثلة في جوهرها لتحذيرات وجّهها ترامب نحو رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي وانتهت باتهام زيلينسكي بالديكتاتورية والمراهقة والغباء، حيث يعتقد ترامب أن تايوان سرقت مكانة أميركا في صناعة الموصلات العالية التقنية وآن أوان استردادها. وهكذا فجأة سارت أميركا عكس السير وبدون مقدّمات، من اعتبار التفرّغ لمنازلة روسيا والصين ألوية الاستراتيجية الأميركية السياسية والاقتصادية والعسكرية، إلى صناعة التسويات وحلّ النزاعات بالتفاوض مع كل من روسيا والصين وفق أولويّة التفرّغ للداخل الأميركي، والاستعداد للخوض في خفض سباق التسلّح سواء بتخفيض الموازنات العسكرية إلى النصف أو عبر وقف إنتاج الأسلحة النوويّة وصولاً إلى تفاهمات الاستغناء التدريجيّ عنها.
كان العجز الأميركي عن تحقيق اختراقات في الساحة الدولية واضحاً، وكان التراجع الداخلي أشدّ وضوحاً، وكان النقاش حول فرص تراجع أميركي يتيح التوصل الى تسويات تعيد إنتاج نظام عالمي جديد متوازن، ينتهي الى ترجيح استبعاد الفرضية لصالح مواصلة الحروب الصغيرة على حساب الحلفاء، وترجيح ذهاب الدولة العميقة الأميركية الواقعة تحت تأثير تكتلات العولمة المالية ومجمّعات الصناعات العسكرية نحو إدامة الصراع، حتى ظهرت الترامبية التي يريد البعض حصر النظر نحوها بالمفرق، كظاهرة تتقن صناعة المفرقعات، وتعيد إنتاج مظهر القوة الأميركية عبر التهديد، لكنها سرعان ما تذهب إلى الصفقة وتقدّمها كإنجاز كبير، لكن دون الاعتراف بأن ما يجري هو تعبير عن الخيار الاستراتيجي الجديد للدولة العميقة نفسها منعاً للانهيار والتفكك على الطريقة السوفياتية، وقد وجدت مع ترامب ضالتها لتحقيق المهمة، بحيث تصبح القضية أن جو بايدن كان أحمق بدلاً من أن تصبح أميركا ضعيفة.
حدّد ترامب المدى الحيويّ لأميركا الجديدة ضمن مربع جغرافيّ يمتدّ من كندا والمكسيك الى بنما وغرينلاند وألاسكا، وحدّد حصانه الاقتصادي بقطاع النفط والغاز، وحدّد خطته المالية بإعادة فك وتركيب الإنفاق الأميركي على الخارج من أدوات الحرب الناعمة وتمويل الثورات الملونة، إلى تخفيض الإنفاق العسكري، وإعادة هيكلة المؤسسات الإدارية للدولة وإنفاقها المتضخم، وفرض الرسوم الجمركية. والهدف تحقيق تحفيز اقتصادي للصناعة والزراعة وزيادة واردات الخزينة وتخفيف أوجه الإنفاق، بحيث تكون الحصيلة إنهاء عجز الموازنة، وتأمين فائض يتيح بداية السيطرة على الدين العام، وبالتالي خدمة الدين، بعدما بلغت الحالة المالية شفا الانهيار.
المساومة على الحلفاء لعبة مفتوحة، وأوكرانيا بداية، وأوروبا على الطريق، وتايوان على الجدول. وبالمقابل السطوة على الحلفاء الأقربين من كندا إلى المكسيك إلى بنما وغرينلاند، فنحن أمام أميركا الكبرى بدلاً من أميركا العظمى أو أميركا العظيمة، وأمام أميركا الحماية الجمركية لا أميركا التجارة الحرة، وأميركا المنافسة في سوق النفط والغاز لا أميركا الطاقات المتجدّدة، وأميركا المحافظة والتقليدية لا أميركا المثلية وجمعيات التحلل من كل القيم والأخلاق بداعي الحرية المطلقة، ومجرد تراجع أميركا عن إعادة تشكيل العالم على مقياس نماذج مريضة تعمّمها، وإعادة توجيه المال المخصّص بهدف التلاعب بالإعلام نحو الداخل بهدف التنمية، هو إنجاز كبير لشعوب العالم.
نحن ندخل مرحلة صياغة العالم الجديد، لكن تبدو منطقتنا وحدها تحت تأثير معادلات العالم القديم، حيث كل التوحّش الأميركي إلى جانب كيان الاحتلال، وحيث التغييرات الجارية كلها على مقاس المصلحة الإسرائيلية، وحيث على شعوبنا أن تبذل التضحيات لإحياء حضور قضيتها المركزية فلسطين، وكل التضحيات المبذولة لم تكن كافية لتغيير سلوك الحكام، لكن الحرب التي شهدتها المنطقة لا تزال ترسم مفاعيلها، حيث كيان الاحتلال أضعف من شنّ الحروب، وأميركا غير جاهزة للتورط بأي حرب، وما حققته المقاومات العربية رأس جسر لبناء سياسات المرحلة المقبلة، رغم غموض المشهد وضبابيّة الصورة.