حروب الآخرين على أرض لبنان

ناصر قنديل
– استخدم رئيس الجمهورية خلال لقائه مع الوفد الإيراني الذي زاره بمناسبة مشاركته في تشييع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، معادلة تعب لبنان من حروب الآخرين على أرضه، في إشارة واضحة إلى أن لبنان تحوّل ساحة مواجهة بين إيران وكل من أميركا و”إسرائيل”، ضمن إطار التوصيف التقليدي المستخدَم في التعامل مع حزب الله كامتداد لإيران في هذه الحرب. والمعادلة التي كان الراحل غسان تويني قد فلسفها ونظّر لها، ظهرت للمرة الأولى في توصيف الحرب الأهلية التي قتل اللبنانيون فيها بعضهم بعضاً، بصفتها حرباً بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية على أرض لبنان، وفي جزء منها حرب بين سورية وكل من أميركا و”إسرائيل” على أرض لبنان، فهل يستطيع هذا التوصيف احتواء المشهد؟
– في نقاش سابق مع الراحل غسان تويني طرحت أسئلة لا تناقش في أصل الفكرة بل تفتح فيها ثغرات يصعب سدّها، مثل السؤال عن سبب بقاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان بعد التغلّب على الخصمين السوري والفلسطيني، بموجب اتفاق فيليب حبيب القاضي بخروج القوات السورية والقوات الفلسطينية من بيروت، في شهر آب 1982، والتمسك الإسرائيلي بتحقيق مكاسب مباشرة عبر اتفاق سلام مع لبنان، ثبت أن لبنان عاجز عن تقديمها وأنه سرعان ما يتشظى عدنما يغامر بفعل ذلك، وأن بقاء هذا الاحتلال كان السبب بنشوء مقاومة لبنانية كانت هي مَن فرض الانسحابات المتلاحقة على الاحتلال، حتى الشريط الحدودي عام 1985. وهنا لو لم تكن لدى “إسرائيل” أطماع وتطلّعات ومصالح وحسابات إسرائيلية ولبنانية في لبنان لكان يفترض أن يكون الانسحاب النهائي من لبنان عام 1985، ووقتها كانت المقاومة اللبنانية من خلفيات ومنطلقات تتيح إقفال ملف الصراع، بلا أي مترتبات إقليمية، لأن إيران لم تكن حاضرة وحزب الله لم يكن قد أصبح بعد القوة الرئيسيّة في المقاومة، إلى حد أنه يمكن القول ببساطة إن بقاء الاحتلال عطل تنفيذ اتفاق الطائف الذي بُني في جانب منه على فرضيّة النجاح بتطبيق القرار 425 عبر وعد بناء دولة تنشر قواها الذاتيّة على كامل أراضيها، وتقوم بحلّ كل الميليشيات وسحب سلاحها، مانحاً ببقائه وإنشائه دويلة تابعة له بلون طائفي معين، الشرعيّة للمقاومة التي قادها حزب الله ودعمتها إيران.
– رغم العلاقات الخاصة بين المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله وكل من إيران وسورية قبل العام 2000، ورغم وجود ملفات تفاوضية بين إيران وأميركا حول العلاقات الإشكاليّة بينهما، ووجود تفاوض حول ملف السلام على خلفيّة مؤتمر مدريد ومساره التفاوضيّ بين سورية وأميركا، ورغم الاتهامات التي وجهت للمقاومة اللبنانيّة بأنها مجرد ذراع إيراني أو سوري أو سوري إيراني، لتحسين الأوراق التفاوضية لأحدهما أو لكليهما، فإن الحصيلة هي التي تتكلّم، والحصيلة تقول إن الأرض التي تحرّرت كانت أرضاً لبنانية بينما بقيت الملفات التفاوضية عالقة بين كل من سورية وإيران من جهة وأميركا من جهة مقابلة.
– بعد الحرب الأخيرة، وبمعزل عن النقاش الذي يتمسّك البعض بإثارته حول طبيعتها وظروف مشاركة لبنان بها وصحة وصوابيّة قرار الإسناد لغزة، نحن أمام مشهد رئاسيّ وحكوميّ جاء ثمرة تموضع لحزب الله عناوينه، أولاً الانسحاب العسكري من جنوب الليطاني لصالح منطقة تحتكر فيها الدولة اللبنانيّة حمل السلاح، وثانياً عدم الردّ الفوريّ على الانتهاكات الإسرائيلية الفاضحة والقاسية لاتفاق وقف إطلاق النار، سواء ببقاء الاحتلال للتلال اللبنانيّة الحدودية والجزء اللبناني من بلدة الغجر كمناطق تقع داخل الخط الأزرق، أو عبر الانتهاك الواضح يومياً للأجواء اللبنانية، أو من خلال الاعتداءات الناريّة عبر الغارات الجويّة المتعدّدة وعمليّات إطلاق النار عبر الحدود، وبالتالي التزام حزب الله بإفساح المجال أمام الدولة اللبنانية لإنهاء الاحتلال وردّ الاعتداءات بالطرق الدبلوماسيّة، وثالثاً إخضاع مستقبل سلاح المقاومة لحاصل الحوار الوطني حول رسم استراتيجية للدفاع، على قاعدة أولويّة حماية لبنان والتمسك بالحقوق السياديّة للبنان، وهذه عملياً وفقاً لمفهوم حروب الآخرين إعلان إنهاء الجانب المتصل بإيران وحزب الله من هذه الفرضية، فهل تخرج “إسرائيل” من تطلّعاتها نحو فرض شروطها الخاصة على لبنان، كما فعلت بعد عام 1982 عندما بقيت 18 عاماً تحتلّ أراضي لبنانية؟
– السؤال هو إذا تكرّر الفعل الإسرائيلي، وبقي الاحتلال والعدوان. وهذا هو الأرجح، ولم يستجب الأميركي لنداءات التدخل، وبقي كما هو دائماً أولويته اليد الإسرائيلية العليا، وخرجت مقاومة جديدة غير مقاومة حزب الله، أو عاد حزب الله إلى مقاومته، هل يصحّ عندها الحديث عن حروب الآخرين على أرض لبنان، وإذا حصلت هذه المقاومة على مساندة بوليفيا وكولومبيا وتشيلي والبرازيل وجنوب أفريقيا وهي دول انحازت إلى جانب غزة في وجه حرب الإبادة انتصاراً للحق الإنسانيّ، وقد تكرّر ذلك مع مقاومة لبنانيّة وطنيّة خالصة، فهل يكون ذلك تجديداً لنوع يستدعي الإدانة من حروب الآخرين على أرض لبنان، يستحق إشهار التعب؟
– لو أسقطنا مفهوم حروب الآخرين على المشهد السوري الإسرائيلي، فهل نحتاج إلى نظارات طبية خاصة لننتبه إلى أن الحكم السوري الجديد حقق معجزات للأمن الإسرائيلي بإخراج إيران وحزب الله من سورية وإتاحة التخلص من الجيش السوري وتدمير مقدراته وقطع طريق إمداد المقاومة في لبنان، أما رعاته الإقليميون في تركيا وقطر فهم من أقرب أصدقاء واشنطن، فهل ثمّة حروب للآخرين على أرض سورية، أم أنها أطماع إسرائيلية سرعان ما تحظى بالدعم الأميركي مهما كانت درجة الصداقة بين واشنطن والضفة المقابلة؟ وهل يمكن للبنان تفادي الكأس المرّة نفسها، وهو لن يستطيع تقديم مثل الخدمات التي قدّمتها حكومة سورية الجديدة لـ”إسرائيل”، ولا الحصول على تبني ودعم دول وازنة في مكانتها الإقليمية، ولدى واشنطن مثل تركيا وقطر؟ وهل يجب على لبنان في مثل هذه الحال إطلاق أوصاف مؤذية لكل مقاومة مفترضة ستصبح واجباً وطنياً قريباً، بالإعلان أنها امتداد لحروب الآخرين، يما ينزع عنها صفة الوطنيّة، ويبرئ الاحتلال من عدوانيّته وأطماعه؟