أخيرة

الإنسان العربي بين الواقع والحلم

 

ليس صحيحاً أنّ الإنسان العربي سقط نهائيّاً في النسيان، وأنّ الأشياء الجميلة كالحريّة، والعدالة، والمساواة، صارت من الماضي، وأنّ البطولات المختزنة، تاريخاً وحضارة، قد تحوّلت إلى ما يشبه حفلاتِ الزار.
في واقع النظام العربي، والخطاب الحزبي، واللهجة الأصولية، يمكن القول إنّ ذلك كلَّه قد حدث، وهو يحدث باستمرار. لقد غسل هؤلاء دماغَ الإنسان العربي، ورسموا له صورة مشوّهةً عن الحريّة، وأقاموا عدالةً أقربَ ما تكون، في الممارسة، إلى عدالة الباب العالي إذا لم تكن أسوأ بكثير، ونادوا بمساواة الأغنياء في ما بينهم، ومساواة الفقراء أيضاً في ما بينهم، ولم يكتفوا فنادوا بمساواة العقول!
إنّ هذا التدمير الجَماعي للشخصية العربية جعل الواقع رماديّاً وكئيباً؛ فإذا المواطن يصفّق لما يجري حوله؛ ويضحك، ويرقص، حتّى إذا تعب حمل مِتاعه، وسافر في أرض الغربة. والأسوأ من ذلك أنّ موقفه ممّا يجري حوله هو موقف في غاية الاستسلام: يقبل بدون مناقشة، ويوافق بدون شروط! حتّى حقُّه في التظاهر، وحقُّه في رفع الرايات السود، فقدهما لأنه لا يريد أن يفهم لماذا فقد إحساسه بالحريّة!
ويبقى الحلمُ…
وأنا لا أريد أن أصدّقَ أنّ الأحلام الكبيرة يمكن أن تنتهي كما تنتهي الأرقام إلى معادلة رياضيّة يتفق الجميع بشأنها!
الحلم، أيها النسور، معادلة من نوع آخر، لا يحسن قراءته إلّا الموهوبون، الأكفياء، الثائرون، الأنبياء، الرسل، القادرون على تعبئة الناس ضدَّ الظلم، والقابلون الموتَ.
الحلم لا ينتهي… قد تتهشّم بلّوراته الكريستاليّة، لكنه يبقى ليصير جزءاً من الواقع، وجزءاً آخر من الفجر الآتي.
وعندها سنسمع من جديد صهيل الخيول، وسنعرف أنّ كرامة الإنسان هي أهمّ من كلّ تراب الأرض، وأنّ فينا قوّةً لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ، وأنّ ما يرسمه النظام العالمي الجديد لن يكون أزليّاً، فثمّةَ رجال قادرون على «لخبطة» الأشياء، وإعادة ترتيبها. والذاكرة مزدحمة بأسماء العظام، كسقراط، وعليّ، وابن المقفع، والحلّاج، وغاليلي، ويوسف العظمة، وسعاده و… و… الذين حلموا، ورفضوا، وماتوا، ثَمّ انتصروا…

*من كتابي «وطن للبيع… فمن يشتري»
الصادر سنة 1995

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى