حلويات رمضان: تاريخ وثقافة ولغة وتاج موائد الافطار

سارة طالب السهيل
رمضان، هذا الشهر الذي يَحمِلُ في طيّاته نسمات الروحانية وأريج الذكريات، لا يكتمل إلّا بوجود مائدة تَزْهُو بِحُلْوَيَاتٍ تَختزلُ قروناً من التاريخ والطقوس.
وربما لأنني أحبُّ السكّر، ومن حبّي له كتبت قصة للأطفال عن حبّات السكّر.
وأعزّي نفسي بمقولة «المؤمنون حلويون».
لعلّ حُب الأطفال للسكّر جعلهم يتحمّسون للصيام في شهر رمضان الفضيل، وينتظرون و(أنا معهم) الإفطار حتى يتناولوا الحلويات الرمضانية اللذيذة التي صنعت من السكّر.
السكّر دخل إلى العالم العربي في القرون الوسطى، حيث أدت حركة التجارة النشطة بين الشرق والغرب لنقله إلى العراق ومصر والشام والمغرب، وكان للفتوحات الإسلامية دور كبير في انتشار السكر بين هذه المناطق، حيث زُرِع قصب السكر في بلاد الرافدين ومصر، واستُخدم في صناعة الحلويات منذ العصور القديمة، مع مرور الوقت تطوّرت صناعة الحلويات في العالم العربي، وبدأت الوصفات تتنوّع وتتحسّن، معتمدة بشكل كبير على السكر كمكوّن أساسي. في صناعة الحلويات العربية الأكثر شهرة مثل الكنافة، البقلاوة، القطايف، والبسبوسة التي كانت من أوائل الحلويات التي صنعت باستخدام السكر، وأصبحت جزءاً من التراث الثقافي والغذائي في العالم العربي، محببّة على نحو خاص خلال المناسبات والأعياد، خاصة في شهر رمضان الكريم.
قبل إكمال مقالي أذكّر بأهمية إهداء الأطفال الأقلّ حظاً والعائلات المستورة بصمت والأسر المتعففة الكثير من الطعام والحلوى في رمضان وغير رمضان طبعاً.
وأتبنّى شعار (لا تأكل وحدك وهناك طفل يتمنّى أن يتذوّق القليل من طعامك). بالطبع ليس فقط الأطفال، بل الرجال والنساء وكبار السنّ أرجو ان تتكافلوا وتشعروا معهم.
حلويات رمضان التي كانت عبر التاريخ مرتبطة بهذا الشهر الفضيل وتبرز منها، الكنافة والقطائف كسفيرين حُلوَيْ المذاق لثقافةٍ عربيةٍ عريقة، تَربطُ بين الماضي والحاضر، وبين اللطائف التاريخية وروح الشهر الفضيل. فلنَغْرِسْ مِلْعَقَةً في قِصَصِهما، ولنستكشف كيف أصبحتا رمزاً للبهجة الرمضانية.
كما أن «الزلابية» و»زنود الست» هي من أشهى الحلويات الشعبية في رمضان، فلنتعرّف على تاريخ هذه الحلويات وارتباطها برمضان…
الكنافة: حَلْوَى الخُلفاء وحُلْمُ المَلِكْ
تحمل الكنافة في طَيّاتها حكايةً تَختلطُ بين الأسطورة والتاريخ. يُرْوَى أنّ أصولها تعود إلى العصر الأموي، حين طلب الخليفة معاوية بن أبي سفيان طبقاً يُساعِدُه على تحمُّل الجوع في نهار رمضان، فاخترع الطهاةُ عجينةً مَقْلِيَةً مُحلاةً بالعسل. وقيل أيضاً إنها وُلدت في قصور الفاطميين، حين حاول الطبّاخون إرضاءَ الخليفة المُعِزّ بِحَلْوَى تَلِيقُ بِعَظَمَتِه، فصنعوا شَعريةً ذهبيةً تشبه تاج الملك، وسَمّوها «الكنافة» تيمُّناً بالكِنَفِ (الستر)، لأنها تُخفي تحتها كنوزاً من الجوز أو القشطة.
لكن «اللطيفة» الأطرف تَأتي من مصر العثمانية، حيثُ كان الباشوات يتبارون في ابتكار أنواع الكنافة، حتى صارت تُقدَّم في أوانٍ فِضّيةٍ مع رشّة ماء الورد، وكأنها تَتحدّى حلاوة ليالي رمضان. اليوم، تتنافسُ البلاد العربية في إضفاء لمساتها عليها: فلسطين تَزْهو بِكُنافةِ الجبنة المالحَة، والشام تُبدع في كِنافةِ القشطة، ومصر تَصْهر القلوبَ بِكُنافةِ «الميل فاي».
ومن القصص الشهيرة حول الكنافة الملكية في العصر المملوكي، تذكر قصة الخليفة المملوكي الظاهر بيبرس الذي كان من عشاق الكنافة. في إحدى ليالي رمضان، قدّم له طباخ موهوب صنفاً جديداً من الكنافة مغطى بالكريمة والمكسرات الفاخرة. أعجب الخليفة بالكنافة إلى حدّ أنه أمر بتقديمها يومياً له ولضيوفه في قصوره. ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الكنافة تُعرف باسم «الكنافة الملكية» وكان تُقَدَّم فقط في المناسبات الخاصة.
القطائف: مِنْ حَلوى الشُّعراء
إلى فانوس رمضان
أما القطائف، فحكايتها تبدأ مع العباسيين، والتي وَصَفَها الشاعر أبو نواس بِـ«قمرية» تشبه الأقمار في شكلها، وتذوب كالندى في الفم. وكانت تُحشى بالمكسرات، وتُقَلَّى كرمز للثراء، حتى انّ الخليفة هارون الرشيد ـ كما تذكر بعض الروايات ـ كان يَستعجلُ طباخيه في ليالي رمضان قائلاً: «أين القطائف؟ كأنها قِطَعُ الذهب تُنْثر على المائدة!»
لكن» اللطيفة» الأكثر طرافةً تربط القطائف بفانوس رمضان. ففي العصر المملوكي، كان الباعة يعلقونها على أبواب المحلات كـ» فوانيس صغيرة» تلمع بالقطر، فصارت جزءاً من زينة الشوارع، وكأنّ كل قطيفة تُضيء وجهاً جائعاً ينتظر آذان المغرب.
وهناك قصة مشهورة عن القطائف في العصر المملوكي، يُحكى عن مملوك يُدعى عبد الملك الذي كان يقوم بجولات في السوق ليلاً بحثاً عن القطائف الأفضل. وعندما كان يجد القطائف المثالية، كان يشتريها بكميات كبيرة، ويُوزعها على الفقراء في الأحياء المجاورة، مما يعكس كرم الشهر الفضيل وروحه التضامنية.
أصابع «الست»
يُقال إنّ أميرة أندلسية تُدعى زينب كانت ماهرة في فن الطهو، وقد ابتكرت وصفة جديدة لحلوى لذيذة بمزجها بالعسل واللوز المجروش. أصبحت هذه نوعاً من أنواع الزلابية مفضلة لدى النبلاء، وأصبحت تُقدّم في موائد الإفطار الرمضانية كجزء من التقاليد. ولهذا سُميت «أصابع الست زينب».
أما «الزلابية» السادة فهي إحدى الحلويات الشعبية التي تتمتع بتاريخ طويل في العالم العربي. يُعتقد أنّ أصلها يعود إلى العصور الوسطى، حيث كانت تُصنع في الأندلس، وانتشرت في بلاد المغرب العربي والعراق والشام. هناك روايات متعدّدة حول أصل تسميتها، منها أنها جاءت من كلمة «زلة بي» التي قالها أحد الطهاة عندما أخطأ في إعدادها، وأخرى تقول إنها من ابتكار الموسيقي العربي زرياب في أثناء رحلته إلى الأندلس.
أما «زنود الست»، فهي حلوى عراقية تقليدية تعود أصولها إلى مدينة كركوك، وانتشرت لاحقاً في بغداد وباقي المدن العراقية. يُقال إنّ أصل التسمية يعود إلى حاكم طرابلس التركي الذي قدّمها لضيوفه في وليمة عشاء، وأطلق عليها أحد المدعوين هذا الإسم؛ بسبب شكلها الذي يشبه زنود النساء. وهي تُحضّر من رقائق العجين المحشوة بالقشطة والمقلية، وتُزين بالفستق الحلبي وتُغمر بالقطر.
رمضان زمَن الحَلوَى والذِّكْريات
لا تَكتسبُ الكنافة والقطائف وأخواتهما قداستهم في رمضان من حلاوتهم فحسب، بل من كونهم يذكِّرونِنا بأنّ الأجداد حوّلوا أبسط المكونات إلى فَنّ. فالسكر كان سلعة نادرة، والنشا اختراع عباسي، لكنهم مزجوهما بِحِنكةٍ مع حكاياتهم.
اليوم، ورغم تطور صناعة الحلويات، تبقى رائحة الكنافة تتصاعد من أفران الحارات القديمة، وتُحافظ القطائف على مكانتها كـ» سفيرة» للحنين. فكلّ لقمة منهما تحمل ذكريات الجدّات اللواتي يَلففنَ العجين بحرص، والأطفال الذين يترقبونها كهدية بعد صوم يوم طويل.
حَلوَى تختزن الذكريات
ولا تهجر مع الزمَن…
لقد تغيّرت مكونات الكنافة والقطائف، والزلابية وزنود الست وأصابع الست وتنوّعت أشكالها، لكنها لا تزال تختزل روحاً واحدة: روح الكرم، وفرحة الاجتماع على مائدة الإفطار، وتذكيراً بأنّ الحلوى ليست مجرد طعام، بل لغةٌ تروي تاريخاً من اللطائف والقصص الطريفة. ففي كلّ رمضان، تُعيدنا هذه الحلويّات إلى زمنٍ كان فيه الفرح بسيطاً، والذكريات أحلى من السكر…