نقاط على الحروف

ميزان القوى الفعلي بين الاحتلال والمقاومة

 

ناصر قنديل

 

– إذا كان لخطاب التمايز عن خطاب المقاومة حاجة الحديث عن حروب الآخرين على أرض لبنان، أو عن المحاور الإقليمية والخروج منها، فهذا خطاب ينتمي للماضي وقد فقد شرعيته منذ وقف إطلاق النار ومن بعده التغيير الاستراتيجي الذي أصاب سورية، فلم تعُد إيران التهمة التي تتم ملاحقة المقاومة باعتبارها محوراً له مشروع إقليميّ يستخدم لبنان لتقديم الخدمات إليه، وإيران باتت خارج سورية ولا صلة جغرافيّة مباشرة بينها وبين حزب الله. ولا عاد حزب الله على الحدود ولا صلة جغرافية احتكاكية مباشرة بينه وبين الاحتلال، والأمور انتقلت من أسئلة يوجّهها غير المؤمنين بالمقاومة إلى أسئلة توجّهها المقاومة. فالطريق سالك بلا عوائق أمام أصحاب الخيار الدبلوماسي وكفاية شرعية الدولة وعلمها ورمزية جيشها لاسترداد الأرض ووقف العدوان، وخلال شهور لم يظهر أن لهذا الخيار مشروعيّة بعد، وكل يوم يمرّ يفقد معه هذا الخيار مزيداً من المصداقية. ففي رئاسة الجمهورية قائد جيش توافق من حوله اللبنانيّون بمن فيهم المقاومة، وهو صديق للغرب ومؤمن بالصداقة مع أميركا، وقد سلّمت له المقاومة وللجيش مسؤولية حصرية في منطقة جنوب الليطاني وفقاً لنصوص القرار 1701، كما يؤكد في مقابلاته وحواراته، ويلقي التبعات على الاحتلال بتعطيل التنفيذ الكامل للقرار. وفي رئاسة الحكومة شخصية محترمة بتاريخها ونزاهتها، وهي صديقة للغرب مؤمنة بجدوى خيار الدبلوماسية وكفاية الاصطفاف وراء الدولة لضمان السيادة اللبنانية بوجه الاحتلال بدعم المجتمع الدولي، وفي مقدّمته أميركا، ومع مرور الوقت فشل هذا الرهان سوف تتّسع دائرة الذين يقولون ويسألون هل من بديل عن المواجهة، سواء بتعاون الجيش والمقاومة، أو بإفساح المجال أمام المقاومة؟ والقضية التي لا ينتبه لها الكثيرون في قراءة موازين القوى بين المقاومة والاحتلال، هي الشرعيّة والمشروعيّة، فإن انسحب الاحتلال وأوقف العدوان، وهذا الاحتمال بات ضعيفاً أكثر فأكثر، لكن حتى بحال حدوثه ربحت المقاومة لأن هذا الانكفاء يتمّ بفضل وجودها وتفادياً لمنحها شرعيّة العمل. وإن بقي الاحتلال وفشل الخيار الدبلوماسي في إزالته تحققت للمقاومة شرعيّة أكبر خياراً وحيداً بمشاركة الجيش أو بإفساح المجال أمامها.

– في ميزان القوى العسكري لم نعُد في الحرب المباشرة والمنافسة في القوة النارية، وإن استحقت المواجهة مجدداً فإن الاحتلال يدرك أن المواجهة سوف يكون ثقلها في الحرب البرّية، سواء عبر استنزاف طويل أو لاحقاً في منازلة شاملة. وهذا يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في مواجهات القرى الأمامية خلال ستين يوماً قبل وقف إطلاق النار، بخلاف الستين يوماً بعده، حيث قالت المواجهة في القرى الأمامية إن القوة البرية لجيش الاحتلال عاجزة عن مواجهة القوى البرية للمقاومة، وإن الكفة راجحة بالمطلق لصالح المقاومة، وليس بيد الاحتلال الذي فقد جيشه الكثير من توازنه ومن روحه القتالية، وقوامه البشري لن يعدل هذا الميزان مهما فعل، ورئيس أركانه الجديد يقول إن عملية إعادة البناء تحتاج عشر سنوات على الأقل حتى يستعيد الجيش الحالة التي كان عليها عشية الحرب.

– لعل الوجه الثالث والأهم من ميزان القوى هو الناس، البيئة المحيطة بجيش الكيان والبيئة المحيطة بالمقاومة، والمقياس هنا مباشر وسهل، وهو قياس درجة حماسة سكان الحدود للعودة، وقد رأينا مراراً مشهد الجنوبيين الاقتحامي في قرى الحدود وتقديمهم الشهداء والجرحى في سبيل تثبيت عودتهم، وهم لا يملكون بيوتاً وكل ما حولهم خراب، والدولة حتى الآن لا تقدّم لهم شيئاً لبدء الإعمار بل ربّما تعاقبهم إن فكروا بإعادة الإعمار دون إذنها؛ بينما تقول التقارير الإسرائيلية إن عدد الذين عادوا إلى مستوطنات الشمال في ظلّ سخاء العطاءات الحكوميّة لم يتجاوز 19000 مستوطن، وبينما تتلاعب حكومة الاحتلال في تحديد نسبة هؤلاء من حجم النازحين فتقول إنهم 30% من أصل 67000 قامت الحكومة بإخلائهم، تكذبها التقارير فيقول تقرير الهيئة الوطنية لإدارة الطوارئ، وهي مؤسسة حكومية، إن العدد كان في تشرين الأول عام 2023 بعد أيام من فتح جبهة إسناد غزة، 125000 نازح نصفهم نزحوا دون برامج إيواء حكومية. ويقول تقرير لجريدة وول ستريت جورنال إن العدد في آذار 2024 كان 225000 نازح. وتحدّثت وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال شهور الحرب عن رقم 300000 نازح، فيصبح عدد العائدين الـ 19000 نسبة لا تزيد عن 10% وربما تكون 6% فقط، ولا تخفي حكومة الكيان أن أحد أسباب سعيها لإظهار القوة في جبهة جنوب لبنان بعد خسارة المواجهة البرّية وبدء وقف إطلاق النار برعاية أميركيّة، هو تقديم هذه الصورة للمستوطنين لتشجيعهم على العودة. وببساطة سوف تبقى معادلة القوة بين المقاومة والاحتلال هي معادلة العودة بين الخيام وكريات شمونة.

– قد لا ينتبه الذي لا يؤيّدون خيار المقاومة أنهم جزء من خطتها، ومن صناعتها لمشروعيّتها، ولميزان القوى في المواجهة المقبلة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى