الانفجار السوري

ناصر قنديل
قبل يومين من انتهاء الشهر الثالث بعد دخول هيئة تحرير الشام إلى دمشق وإمساكها بدفة الحكم بدعم تركي وقطري وتغطية أميركية أوروبية ومباركة عربية وترحيب إسرائيلي، بدا أن المشهد السوريّ يدخل في نفق مظلم، وأن الصورة التي حملتها السيطرة السريعة للحكم الجديد والخطاب الانفتاحي لرئيس الهيئة أمام تحديات حقيقية، حيث تبدّدت الآمال برفع العقوبات الأميركية عن التعاملات المصرفية السورية، ما يعني أن ما جعل السوريين الذين أتعبهم الحصار يبدون استعداداً للترحيب بالنظام الجديد أملاً بمغادرة حالة الفقر والجوع، قد بدأ يصيبهم الإحباط، إضافة إلى ما ترتّب على تسريح كل العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية في ظل بطالة تسيطر على كل مرافق الاقتصاد، وهم بمئات الآلاف صاروا بلا دخل وفي حال أقرب إلى التشريد، أضيف إليهم قرابة نصف مليون موظف أخرجوا من الخدمة، وقطعت رواتبهم، بينما تتراجع التغذية بالكهرباء من سيئ إلى أسوأ مع تعثر التفاهم مع قوات قسد التي تسيطر على حقول النفط والغاز بتغطية أميركيّة، بينما تصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية التي كانت آمال السوريين بأن يؤدي إسقاط النظام السابق الى إيقافها مع خروج حزب الله وإيران من سورية، وخلال ثلاثة شهور ثبت للسوريين أن آمالهم كانت مبالغات، دفعوا ثمنها وظائفهم ومصادر رزقهم، وأنهم كانوا ضحية خدعة كبيرة. فالأميركي الذي يشكل سقف السياسة التركية التي شكلت سقف النظام السوري الجديد، يضع في الأولوية إخضاع سورية للطلبات الإسرائيلية التي لا يستطيع السوريون تلبيتها، وحتى يتحقق ذلك تبقى الأزمة عالقة مع الجماعات الكردية وتبقى الكهرباء إلى الأسوأ، والأوضاع المعيشية في ظل استمرار العقوبات وعمليات الصرف الواسعة الى مزيد من السوء، والأوضاع الأمنيّة جمعت إلى الاعتداءات الإسرائيلية التي اتسعت رقعتها وارتفعت وتيرتها، ما ترتّب على ممارسات انتقامية غلب عليها التطهير الطائفي ما اضطر جهة معارضة مثل المرصد السوري لحقوق الإنسان تتحدّث عن وضع لا يُطاق، سواء داخل المكوّن الطائفيّ لهيئة تحرير الشام، حيث شخصيّة مثل المفتي أحمد حسون تتعرّض للإهانة، وحيث سائر المكوّنات تصرخ وتشكو من الجنوب إلى الوسط والشمال والساحل.
في ظل ظروف كهذه تلجأ الجهات الحاكمة إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة، وتسارع إلى اعتماد الانتخابات لنيل الشرعية، لكن الحكم الجديد عمل بعكس هذه القاعدة، فابتكر نظرية الحكومة المتجانسة لتبرير حكم اللون الواحد الذي كانت الشكوى منه في ظل النظام السابق أحد شعارات المعارضة، واللون كان في السابق سياسياً بينما هو الآن لون واحد طائفياً ولون واحد حزبياً داخل الطائفة في آن واحد، ولم يبذل أيّ جهد لاستقطاب فعاليّات وشخصيّات ونشطاء من المكوّنات الأخرى طائفياً أو من الشخصيّات المعتدلة في المكوّن الذي تنتمي إليه الهيئة، بحيث يشعر كل السوريّين أنّهم محكومون لا شركاء في الحكم، وقد تمّ تبشيرهم بأن هذا الوضع سوف يستمرّ لخمس سنوات حتى يتاح لهم الذهاب إلى انتخابات، بعدما يكون كل شيء بات تحت السيطرة، وتحقق الضمان بأن لا تأتي الانتخابات بما يغيّر ما تمّ تثبيته.
لا يكفي أن تكون مع الحكم الجديد قناتا “الجزيرة” و”العربية” حتى تصدّق الناس الرواية، لأن الناس واثقة بأنها فتحت الباب للانخراط في مرحلة جديدة عنوانها التأقلم مع النظام الجديد، والاستبشار بأن زمن الفقر والحصار والجوع سوف ينزاح وأن الكهرباء سوف تنتعش وأن الأمن سوف يزدهر، وأن خطاب الانفتاح والعيش المشترك سوف يعمّ أنحاء سورية عملياً، والناس تعلم أنها لم تجد شيئاً مما توقعت يتحقق، وأنّها تشعر بالتهديد الوجوديّ على أساس طائفيّ أو حزبيّ ضيّق لصالح اللون الواحد، والناس تعلم أنّها ضاقت ذرعاً من الشكوى، وتلقت مقابل تسليم السلاح توجيه السلاح إلى صدور أبنائها والاستخفاف بكرامتهم وأرزاقهم، ولذلك تتحفّظ البيئات الكرديّة وتتريّث في الانخراط، وتفعل مناطق الجنوب ذلك، ولذلك يشهد الساحل هذا الانفجار الأمني.
خطاب الفلول، واليد الخارجيّة، الذي تكرّره “الجزيرة” و”العربية” وتخصّصان لترويجه ساعات وخبراء ومستشارين، قد يؤثر خارج سورية، لكن السوريّين يعلمون حقيقة الأمر، ويعلمون أن ما يجري عندهم يشبه ما جرى في لبنان عام 1982 مع نظام أمين الجميل، الذي منحه الجميع فرصة أن يكون لكل اللبنانيين، وأن يحقق الانسحاب الإسرائيلي بعدما أُخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وكانت هي عنوان الاجتياح الإسرائيلي، لكن هذا النظام تصرف فئوياً وفشل وطنياً، وكان صعود القوات اللبنانية إلى جبل لبنان ترجمة لهذا المضمون، وإرسال الجيش لإرهاب سكان الضاحية الجنوبية، فكان الانفجار الكبير قبل أقل سنة من تسلّمه السلطة، وكان أيلول 1983 موعد الانفجار الأول ليليه في شباط 1984 الانفجار الكبير، والانهيار الكبير.
لا تزال هناك فرص للتصحيح، لكنها تحتاج إلى التواضع من الحكم الجديد، والاعتراف بأن الأحلام في تحقيق انفراج سياسيّ وأمنيّ واقتصاديّ تبخّرت، وأن الوحدة الوطنية السورية وإشراك الشعب السوري في الحكم هما الطريق الوحيد لمواجهة التحديات، وأن البداية هي في إعادة تشكيل مؤسسات السلطة بصورة تشاركية ترفض الإقصاء والتهميش والاستعلاء والاستفراد والاستحواذ، إعلاء المصلحة الوطنية على كل حسابات حزبية فئوية أو أجندات سياسية إقليمية.