أخيرة

من ذاكرة طرابلس… ياسَمينة أرسلان رعد

 

مع بدايات أيلول، ومنذ خمسين عاماً ونيّف، وأنا أجلس في الصباح الباكر على شرفة منزلي مرحّباً بقدوم الخريف. أضع أمامي ورقة، أو أمسك كتاباً، أو أتأمّل شجرة الياسَمين التي زرعها أرسلان رعد على مدخل محترفه، والتي كانت الشاهدة على رحيله بقذيفة موتورة.
صحيح أنّ العصافير ما عادت تنقر أصابعي كما من قبلُ، وصحيح أنّ بساتين الليمون التي كانت تحرس البيوت المتواضعة بطيب شذاها، قد صادرتها أطنان من الإسمنت والحديد، فتوقفت المِساحات الخضرُ عن التنفس، وكفّت عن الغناء.
وحدها ياسَمينة أرسلان رعد صمدت سنواتٍ طويلةً، فلم تتوقف يوماً عن استقبال زائري الصباح؛ يقطفون من أزرارها، ثمّ يجمعونها عقداً يزيّن عنق الحبيبة، أو ينثرونها في صحن، ويكون الصحن في صدر الدار.
وما استطعت أبداً أن أتخلص من سحر هذه الياسمينة، فيوم وُلدت حفيدتي لين همستُ في أذنها:
اسمُكِ يا لينْ
حرفان من حروف
الياسمينة.
وكان صباحٌ… خرجتُ إلى الشرفة لألقيَ تحية الصباح على الياسَمينة، فلم أجدْها.
غادرت ركنها الدافئ. رأيت أصدقاءها يمرّون في المكان… يتوقفون… يهزّون رؤوسهم… ثم يرحلون وقلوبُهم محترقة.
اُقتُلعتِ الياسَمينة، سيتحول المكان بأسره إلى أطنان من الإسمنت والحديد.
تغيّر المشهد… لم يعد شارع الثقافة كما من قبلُ… تغيّرت رائحته. إنه ينحدر نحو البدائية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى