«إسرائيل» وإمكانية الولادة الثانية

د. بلال اللقيس
باختصار وتكثيف غير مخلّين… “إسرائيل” (ومن خلفها الغرب) تسعى بكلّ جهدها لإعادة إنتاج ذاتها ومكانتها بعد فترة من الارتكاس ومسار التراجع الذي أصابها وأصاب الهيمنة الغربية معها في إقليمنا الفائق الأهمية والخطورة، وتحاول بدأب لولادة ثانية لقرن جديد تعيد إثبات إمكانيتها للحياة وتلمّس الطريق لضمان الاستمرار وتوفير طمأنينة فقدتها في العقود الماضية. محاولتها اليوم تشبه الأمس حين نجحت في تحقيق الولادة الأولى وتكريس نموذجها الأوّل أو النواة عام 47-48 في ظلّ حضانة ورعاية وعوامل أنجزت ولادة مشروعها بمخاض غير عسير نسبياً.
في الواقع أنّه لم يعد هناك إمكانية لاستمرار مسار ما بعد الـ 48 التوسعي وتأكيد فاعلية القوّة في صناعة الوقائع وإرغام خصومها مع دخول العالم الألفية الثالثة واندحارها التاريخي من لبنان وتقدّم جبهة المقاومة في المنطقة وسلسلة الإخفاقات التي أصابت المشروع الأميركي في غرب آسيا، فصارت والغرب مضطرة لنصر مطلق يعيد إنتاج “إسرائيل” جديدة ومنطقة بمعايير ومواصفات على المقاس “الإسرائيلي” قوامها توسعة الكيان وإرغام العرب على التطبيع وإنهاء المقاومة كخطاب وثقافة وتحويل المنطقة الى منطقة عقيمة عن توليد أيّ نموذج مقاوم والى غير رجعة. وكانت 7 تشرين الأول 2023 ذريعة انطلاقة المخطط الدولي الغربي – الإسرائيلي وتأريخ انطلاقة المسار والحرب الشاملة على المنطقة من فلسطين ولبنان وبقية الساحات وتوالي الفصول بما هو أشبه بحرب عالمية المعنى والدلالات.
لكنّ مسار الأمور يشير إلى أنّ أمامها تحّديات سيصعب إنْ لم نقل يستحيل لها تجاوزها رغم استخدامها لأقصى موجات العنف والإبادة واستخدام القوة المفرطة واللاقانونية. فما يواجهها يبدأ بالبيئة الدولية التي لا تتشابه البتة مع بيئة ولادتها عام 48، وكذلك البيئة الإقليمية التي نراها تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك اللحظة ناهيك عن الداخل الجواني الفلسطيني/ “الإسرائيلي” مقارنة بما سبق.
لقد كانت قوّة التصميم في 48 وحرارة وزخم المشروع الصهيوني والتخطيط له في ذروته، كان قد تخمّر كثيراً في حقب التنشئة الصهيونية والترتيبات والتنسيقات والرعايات والوكالات اليهودية والوعود المتضافرة والالتزامات الدولية ورغبة عواصم كثيرة في التخّلص من مشكلة “اليهود”، فالتعبئة كانت في ذروتها والوعد بـ “النعيم” كان يدغدغ كثيرين وبناء السردية كان محكماً ـ حتّى لو لم يكن واقعياً.
أمّا اليوم فهي أقرب للانفعال التاريخي منها للتصميم والإرادوية والتخطيط والتدرّج والشمول والاستدامة، تحاول اليوم الاستدراك والتوثّب وتغطّي القلق باستظهار القوّة المفرطة كنوع من التغطية والتعويض عن النواقص الفعلية والعميقة علّها تبلغ الولادة الثانية بمزايا وعناصر استدامة منقّحة ومطوّرة. أمّا الفلسطينيون فهم اليوم أشّد مراساً ووعياً وأكثر تماسكاً وتمسّكاً بحقهم في دولتهم ووطنهم وثباتهم عليه ورسم مستقبلهم بأنفسهم وهو ما تجلّى بأرقى صوره منذ طوفان الأقصى، كما إنّهم أقلّ ثقة أو لنقل فاقدي الأمل والثقة بالأنظمة العربية فليسوا في وارد التنازل للأنظمة العربية لاستنقاذ مستقبلهم كما حدث عام 47 -48 عندما وافقوا على المغادرة لبضعة أسابيع. فلن يخرجوا ولن يقبلوا ببدائل ولن يهاجروا ولن يهجّروا مهما بلغت التضحيات بل هناك إرادة معاكسة غير مسبوقة للعودة من الخارج الى الداخل. إذن الوحدة على حقهم وقدسيته والمنهج لبلوغ الحق بالثبات والمقاومة والصمود والتنبّه لعدم تسليم مستقبلهم للعرب بل الإعتماد على أنفسهم وعودتهم الى أنفسهم كلّها عناصر فارقة بين الزمنين.
أمّا إقليمياً فالولادة الأولى حكَمها واقع أنظمة عربية وملكيات كانت قد ولدت للتو من الرحم الأميركي البريطاني والفرنسي (وهذا لثلاثي هو نفسه الذي زرع الكيان الصهيوني) فكانوا حديثي النعمة على الحكم والانبهار به وتثبيت سلطانهم الذي تنازعت عصبياتهم عليه لعقود لتثبيته وفق ما أرادته قوى الخارج فارتبط ثمن ولادتهم بتأمين ولادة ميسّرة للكيان الصهيوني في قلب جسد الأمة (بعضهم كان يريد التحّرر من نير الخلافة العثمانية وتسلّطها وبعضهم كان يلتزم أخلاق العلمانية وقيَمها ويعتبر نفسه ممثلاً للغرب كإيران قبل الثورة وتركيا أتاتورك ناهيك عن مصر الملكية والسعودية التي خرجت للتو بتفاهم الأمن مقابل النفط وغيرهم من الدول بحال ليس أفضل من الذي ذكرناه)، إذن… الأنظمة بين حديث الولادة على يد المنتدب ومدين له وبين موال عن قناعة للغرب ويشكّل امتداداً له، لكنّ هذا قد تغيّر اليوم الى حدّ كبير، فإيران صارت ثورة إسلامية وقاعدة نظرية وأطروحة مواجهة الهيمنة ومقاومتها عالمياً، وصار اليمن والعراق والجزائر وتونس وسلطنة عُمان وشعوب كلّ من لبنان والعراق واليمن في مفارقة عن ماضيهم ودورهم، وولدت حيثيات لدول وأدوار تتمايز فيها عن جبهة المقاومة دون الارتماء الكلّي في حضن الغرب، وهناك دول هي اليوم في قلب التحدّي وتراها الحلقة الأضعف في المسرح الصراعي فلا هي قادرة على التسليم للصهاينة ولا قادرة على المواجهة مع متولّي نعمتها (أيّ الغرب). مشكلة النموذج الأخير أنّ الوقت ليس لصالحه إذا ما طال وتطوّر الصراع (خصوصاً أنّ رهانها على القضاء على المقاومة قد سقط (كالسعودية والإمارات ومستتبعاتهما كالبحرين)، أمّا مصر فتبقى الحالة الأكثر تعقيداً فهي تختلف عن الحالات السابقة ولديها بعض المميّزات التي تفرض تصنيفاً خاصاً لها في هذا الصراع ومسرحه. امّا المتغّير الأهمّ إقليمياً فهو حالة المقاومة التي تقدّمت وتخمّرت شعبياً وباتت خطاباً عابراً للحدود وصارت ممتدّة بالقوّة وبالفعل في دول وفي حركات وفي شعوب في منطقتنا بل وفي العالم، وتمتلك هذه الجبهة المقاومة إمكانية أن تجعل أكلاف الانحياز لـ “إسرائيل” وتبنّيها كبيرة على من يقوم بذلك وهي أيضاً قادرة أن تجعل حياة “إسرائيل” منغّصة ولا تعرف الراحة وأن تستقطب دولاً أخرى بإبعادها نسبياً عن “إسرائيل” في إطار لعبة المصالح وورقة التهديد وتدفيع الأثمان وعدم المسايرة السياسية بل والمخالفة والافادة من التناقضات.
إنّ هذه الجبهة تزداد اتساعاً ومشروعية وحاجة في الإقليم كما أنّها تطوّر وسائل عملها وأدواتها لخوض الصراع، وهي أيضاً تتميّز ببراعة الصمود والانتظار وتدوير الطاقة الضاغطة وإعادة تحويلها.
وإذا توّقفنا عند البيئة الدولية، عام 48 كان هناك ما يشبه الإجماع بين القوى الدولية على الاعتراف وقبول “إسرائيل” والتقاطع على ولادتها وضرورة قيامها، ولم تواجه الدول الداعمة والمنشئة لـ “إسرائيل” أيّ تحدّ أو أيّ نوع من المفاضلة بين مصالحهم وبين ولادتها فولادتها هي عين مصالحهم في ظلّ غياب منافس أو فاتورة ثقيلة وكلفة يجب تسديدها. فتقاطعت المصالح بغياب مفاسد تعطّل المشروع أو تجعلهم يختارون ويُفاضلون. وأيضاً نجحت “إسرائيل” في اللعب على وتر “حق الشعب في تقرير مصيره” وخطاب الأقليات لتتلاقى فكرياً مع فئات كما في لبنان مثلاً أو مع بعض الإقليم تحت عناوين أنّهم امتداد للغرب ولا يشبهون العرب وأنّهم سيبنون واحة ديمقراطية في الشرق الديكتاتوري (علماً أنّ الديكتاتوريات والملكيات هي صناعة الغرب وبضاعته إلينا).
الواقع الدولي اليوم مختلف اختلافاً كبيراً، فالرياح الدولية هي رياح الغضب والكرامة والمكانة والانتقام نتيجة اللاعدالة ونتيجة عدم الاعتراف بالآخر وبحقوقه ومكانته وهويته وقيمه، العالم خصوصاً في منطقتنا يقدّم الكرامة على أيّ شيء آخر حتّى الاقتصاد، بل تراه يرى كلّ شيء من منظور الكرامة إن الأرض أو الاقتصاد أو السياسة أو…)، فالانتقام اليوم للكرامة وعلى الاعتراف والمكانة قبل ايّ شيء والشعور بالتهميش من القرار والاستئثار الذي مارسه الغرب في كلّ شيء، وتريد “إسرائيل” التي لا تمتلك تاريخاً ولا حضارة أن تمارسه على أمة وشعوب ممتدّة في تاريخها وفخورة في قيَمها ومعجبة بتراثها. ناهيك أنّ هناك اليوم انهياراً في النظام الدولي وتفاوتاً في المصالح والمفاضلات بين القوى الدولية، فتأييد “إسرائيل” لم يعد دون حساب الخسائر والأكلاف بل تراها تزداد على مؤيديها وستزداد أكثر فأكثر في معركة الأجيال كلّما زادت “إسرائيل” من استخدامها للقوّة هي والغرب. كما أنّ البيئة الدولية في تحوّل غير مسبوق مع صعود رياح الشعبوية أو لنقل رياح نقض العولمية وانعكاسات ذلك على بنية المنظومة الدولية ومعاييرها وقيمها ومعادلاتها، ما يجعل طبيعة حلبة الصراع ومعاييرها تختلف، فالناتو لا يعود صلباً ما فيه الكفاية للاستمرار ومبررات وجوده تتراجع بينما تتقدّم حسبة اللاعبين الأقوياء بشيء يشبه ما قبل الحرب العالمية الأولى من قرن التوازن الذي عرفه العالم – لا أقول أننّا سننتهي بتعدّد أقطاب كما في تلك المرحلة، لكن أقول أنّ هناك أوجه شبه ولا شّك أنّ هناك أوجه افتراق -، فأميركا معنية بنفسها أولاً وأن لا تدفع أكلاف حروب غيرها أو اعتماد غيرها في أمنه عليها وعلى دافع الضرائب الأميركي، وهي ليست بصدد مواجهة ليست مضمونة النتائج ومكلفة مع دول قوية كـ روسيا النووية أو الصين ولا أيّ قوّة كبرى طالما أنّ الأخيرة لا تتقدّم لتهديد أمن أميركا القومي بمعناه الضيّق وليس بالمعنى الواسع، ولم يعد موضوع الديمقراطية هو الشغل الشاغل ولا السياسة الخارجية التي تقوم على التحالفات المتعدّدة الأطراف، بل أيّ شيء نريده يمكن أن نصل اليه بالمباشر بعد أن نبني أميركا قوية وعظيمة كما ترى المدرسة الترامبية وكما هي نظرتها للعالم التي تبدو مقاربتها سياسة داخلياً وحيال الأقوياء وتجارية في حيال الدول الضعيفة.
كلّ ما تقدّم يجعلنا نتوّقع أنّ المخاض الذي تمرّ فيه المنطقة لا يحتاج من قوى ومجتمعات المقاومة أكثر من الصمود والثقة بالذات واستغلال التناقضات التي شقّت طريقها بين القوى العالمية والإقليمية على السواء، فالصمود الآن أمضى الأسلحة وعدم التراجع مهما كانت الأكلاف هو الأصل وكلمة السّر.
إنّ ذروة الانفعال الغربي الإسرائيلي لم تستطع أن تسقط مقاومتي وشعبي لبنان وفلسطين بل عادا ونهضا بشرعية أمضى وأقوى وأزخم وبالتفاف شعبي غير مسبوق، وكلّ محاولات الضغط المتوّقعة على مقاومة لبنان بتخطيط أميركي يمكن لمجتمع المقاومة احتواءها وامتصاصها بل واستكمال العمل لبناء القوة والاستعداد للمطالبة بحقوقه في إخراج العدو الصهيوني ومنع اعتداءاته والتزامه بالقرار وليس انتهاءً بملحاحية إعادة الإعمار كواجب على الدولة.
إنّ الضغط المقبل سيتأرجح في ساحة خصوم قوى المقاومة وفي ساحات حلفائهم، فموقف أنظمة الدول الحليفة لأميركا سيكون صعباً وأشبه بمفترق، فدفع فاتورة تواطئهم وتخاذلهم تقترب! والأنظمة العربية الحليفة للغرب ستجد نفسها مضطرة للمواجهة بدون أدوات ولا أظافر ولا أسنان وفقط بالكلام والتمنّي على ترامب بينما الأخير لا يعير قيمة إلا للأقوياء والقوة، بينما تجد تركيا نفسها بين انتماء الى ناتو يتهاوى وبين الرضى بمشاركة “إسرائيل” تقاسم سوريا وستكون شرعية أردوغان الداخلية على المحكّ.
إذا تراجعت الأنظمة وتنازلت أمام ترامب والكيان فإنّ ذلك سيشّكل مدخلاً لتمدّد جبهة المقاومة ونفاذها الى ساحات جديدة وإذا ما صمدوا ولم يُذعنوا فهذا سيفيد منطق المقاومة وخطابها وحجّتها ويؤّكد نجاعة منطقها أنّ مسؤولية الدول أن تحمي مصالح شعوبها وأن يكون لديها قدرة الاستقلال بالقرار وهو مطلب المقاومة الأوّل وسعيها الأصيل. في الحالتين سيكون للمقاومة وخطابها مستقبل أفضل ومتقدّم وأكثر نفاذاً، وفي الحالتين ستجد “إسرائيل” نفسها أنّها غير قادرة على الاستمرار وضبط إيقاع التوّسع وإدارته سوى استطالت صوت المدافع! في عالم كلّ شيء فيه تغيّر ولم يعد رحم الـ 48 قائم لولادة جديدة لها. الإجهاد بدأ يدبّ في عروق الكيان وجسده والانفعال هو الذي يديره واختلاف الدوافع بين مكوناته يبرز تباعاً والسير بدون أفق سياسي واضح وبعقلية المغامرة هو سيّد اللعبة في الكيان اليوم. يبقى احتمال علينا دوام التنبّه له في امكانية – نستبعدها حتّى الآن لكن يجب أن نتحوّط جداً منها لأننا في عالم الغرب اللاعقلاني – أن تدفع “إسرائيل” المنطقة والغرب لمواجهة مع إيران وجبهات المقاومة وشعوبها تكون نتيجتها كارثية على كلّ المنطقة ومصادر إمداد الطاقة وتؤدي الى تخلخل وفوضى لا نهاية لها إنْ لم نقل أنّ نتائجها ستكون على غير ما يشتهي ترامب في نظرته للمنطقة ولأميركا العظيمة فترامب يرغب بالتفاوض مع إيران ويستمر السعي بذلك…