أولى

نحو معادلات جديدة…

 

 زياد حافظ*

 

لم تضع الحرب أوزارها في لبنان وفلسطين وسائر مناطق المشرق العربي. بل نحن في مرحلة انتقاليّة في المواجهة مع الكيان الصهيوني وقوى الاستكبار الغربيّة. وخلال هذه المرحلة لا بدّ من مراجعة المعادلات الاستراتيجيّة التي تواكب حركة المواجهة. فخيار المقاومة هو من المسلّمات وليس خاضعاً لمراجعة. وما هو ثابت أيضاً هو تلازم العقل والإيمان في المواجهة. غير أنّ المطلوب هو التفكير في المعادلات التي تحكم خيار المقاومة. وهذه المعادلات عديدة، منها عسكريّ، ومنها فكري على صعيد السياسة والاقتصاد والمعرفة.
ففي ما يتعلّق بالمعادلة العسكرية بات واضحاً أنّ المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن تجيد القتال وتتفوّق بشكل كاسر على قوّات الاحتلال والاستكبار. لكن العدو يتفوّق على المقاومة بالقتل بسبب تملّكه وسائل القتل وبسبب عقلية وذهنية لا تعطي أيّ تفكير للبعد الإنساني في الحرب. ونعتقد أنّ هذه الذهنية مغروسة في العقيدة المنحرفة التي يتبناها. لذلك المواجهة هي مواجهة عقائدية قبل أن تكون عسكرية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية. هي مواجهة قيمية بامتياز. ويبرز ذلك في الميدان العسكري الذي يجسّد تصريحات ومواقف القيادات الصهيونيّة في الدعوة إلى القتل والتجويع والتهجير. فرغبة الإبادة هي التي تحكم العقيدة العسكريّة عند العدو رغم أنه يحاول تسويق أن قوّاته هي أكثر الجيوش أخلاقيّة! وهذه العقلية سمحت للعدو في انتهاج خيار القتل والاغتيال كبديل عن القتال عندما يعجز عن تنفيذ مآربه في القتال. وهذا في رأينا يعكس ضعفاً بنيوياً حيث يفقد الكيان العمق البشري إضافة إلى العمق الجغرافي. فالاغتيال والقتل الجماعي بديلان عن المواجهة العسكرية من مسافة صفر بينما العمق البشريّ والجغرافيّ متوفّر عند المقاومة. لذلك فإنّ الأخلاق والأحكام القرآنيّة هي التي تحكم طبيعة المواجهة عند المقاومة.
السؤال الذي يطرحه العديد من مريدي المقاومة هو لماذا استبعدت استهداف قيادات العدو؟ هل هو عجز أم هو قرار واعٍ؟ في رأينا، يمكن استبعاد العجز كسبب والدليل على ذلك حادثة المُسيّرة التي وصلت إلى غرفة نوم نتنياهو. يبقى الاحتمال الثاني وربما الفعلي وهو التقيّد بالأحكام القرآنية في القتال. هذه نقطة قوة كما هي نقطة ضعف عندما يستغلّ العدو قيَم الخصم ضدّه. لكن في المرحلة المقبلة من المواجهة، وهي مقبلة حتمياً، فلا بدّ للمقاومة درس إمكانية استهداف قيادات العدو. أما السؤال الثاني فهو لماذا لم تستهدف المقاومة “المدنيين” في الكيان المحتلّ بينما العدو لم يوفّر وسيلة للقتل الجماعيّ والإبادة؟
هناك عدّة احتمالات لهذا السلوك. الاحتمال الأول هو التمسّك بالبعد الأخلاقيّ للمواجهة. فالمقاومة تواجه احتلالاً كما تواجه منظومة فكرية وأخلاقية في آن واحد. الاحتمال الثاني له بعُد استراتيجي وهو كسب معركة الرأي العام خاصة في الغرب وقد نجح إلى حدّ كبير خلال الحرب عبر إظهار وحشيّة قوّات الاحتلال والمجازر التي ارتكبها وإنسانيّة المقاومة التي استهدفت أهدافاً عسكرية فقط. كما أنّ بعد القتال وعند تسليم الأسرى الصهاينة بصحة جيّدة أظهرت المقاومة سلوكها الإنسانيّ في معاملة الأسرى بينما العدو أظهر أيضاً وحشيته وعدم إنسانيته في معاملة الأسرى الفلسطينيين. ونعتقد أنّ هذا السلوك يسجّل لصالح المقاومة. لكن في رحى القتال هل هناك خطوط حمراء لدى المقاومة في ما يتعلّق بالأهداف؟ العدو لا يميّز بين الأهداف العسكرية والمدنية فهل يمكن أن تسلك المقاومة ذلك النهج؟ ليس هناك من إجابة واضحة. فمن جهّة التمسّك بقيم الإنسان في الحرب موقف نبيل ونابع من الموروث الثقافي والديني. لكن المجتمع الصهيوني بأكمله مجتمع معسكر ومتوحّش يناصر الإبادة الجماعيّة، وبالتالي التمييز بين “المدني” و”العسكري” أمر صعب للغاية. لكن “المدنيين” في الكيان هم نقطة ضعف استراتيجيّة إذا ما تمّ استهدافهم بينما “المدنيّون” في صف المقاومة يستطيعون تحمّل التضحية وقد برهنوا عن ذلك. فهل ترسل المقاومة رسائل للعدو بأن استهداف المدنيّين في فلسطين ولبنان خط أحمر سيقابل بالمثل؟
مسألة المدنيين في لبنان تختلف عن نظيرتها في غزة وفلسطين حيث الشعب في فلسطين المحتلّة وغزة ملتفّ حول المقاومة وخياره للتحرير من الاحتلال هو المقاومة. لكن في لبنان ليس هناك من إجماع حول المقاومة خارج بيئة المقاومة وإنْ كانت هناك نسبة وازنة خارج البيئة تؤيّد حزب الله وخياره في المقاومة. وحرص الحزب على تجنيب المدنيّين القتل والدمار من قبل الكيان هو ربما حدّ من قدرة الحزب على استعمال كلّ ترسانته. لكن هل ستكون الضوابط نفسها في مواجهة مقبلة إذا فشل النهج الدبلوماسي في تحرير الأراضي اللبنانية؟
ملاحظة أخرى في المعادلة العسكريّة وهي في غاية الأهمية وتتعلّق برأس المال التكنولوجي. من الواضح أنّ رأس المال التكنولوجي وبخاصة في ما يتعلّق بالذكاء الاصطناعي نقطة ضعف عند المقاومة ونقطة قوّة عند العدو. نعتقد أنّ المقاومة تعي ذلك وستعمل على تصحيح أو تقليص الفجوة. لكن ما هي الفترة الزمنيّة التي بحاجة إليها المقاومة للوصول إلى حدّ تستطيع ردع العدو في ذلك المجال؟ والسؤال الأكثر أهميّة هو التكيّف مع البعد التكنولوجي في المواجهة سواء دفاعياً أو هجومياً. فما هي الوسيلة أو الوسائل التي ستبتكرها المقاومة؟ هذا ما سنكتشفه في المرحلة المقبلة.
المعادلة الثانية متلازمة مع المعادلة العسكرية وهي معادلة المنظومة الفكرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع. صحيح أنّ البوصلة للمقاومة هي التحرير من الاحتلال الصهيونيّ لكن الترابط بين الاحتلال الصهيونيّ والهيمنة الغربية ارتباط عضوي وبنيوي. وبالتالي فإنّ مواجهة الاحتلال هي حتماً مواجهة مع الهيمنة الغربية وهذه المواجهة قد تكون عسكريّة لكن في الأساس هي مواجهة فكرية في البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. الاستثمار في الأخلاق في السياسة هو التحوّل المفصليّ في الفكر السياسيّ. وهذا ما قامت به المقاومة. كثيرون اعتبروا الاستثمار في الأخلاق سذاجة في عالم متوحّش. لكن تلك “السذاجة” هي التي تكسب معركة الرأي العام. ومعركة الرأي العام هي التي تساهم في تغيير موازين القوّة. فعلى مدى عقود تمّ تشويه صورة الإسلام في العالم وها هنا المقاومة تبرز قيَم الإسلام في الحرب والتعامل مع الأسرى والمدنيين. وقد كشف التحقيق عند العدو في السابع من أكتوبر مدى الفجوة في الثقافة بين أجهزة استخبارات العدو وثقافة القياديّين في حماس، حيث الكثير من مكالمات قيادة المقاومة استعملت مفردات ومفاهيم قرآنية لم يفهمها العدو لأنه يجهلها. فالتمسّك بالموروث الثقافيّ عند المقاومة قيادة وكوادر وفي جمهور المقاومة كان عنصر قوة استراتيجيّة ساهمت في الصمود كما ساهمت في تعميق سوء التقدير عند العدو.
أما على الصعيد السياسيّ فالسؤال المطروح هو علاقة المقاومة بالنظام العربي الرسمي. بوصلة المقاومة هي تحرير فلسطين بينما لا بوصلة للنظام العربي الرسمي سواء البقاء على الحال (status quo) وخاصة في التبعية إلى الغرب. لكن البقاء على الحال لم يعُد ممكناً خاصة أنّ رأس الهرم في الغرب يواجه صعوبات بنيوية داخلية ما يجعل جدوى استمرار العلاقة مع رأس الهرم أمراً غير قابل للاستمرار. لكن إلى أن تتمّ المراجعة في النظام العربي يصبح السؤال كيف يجب أن تتفاعل المقاومة مع ذلك النظام الذي لم يوفّر أي غطاء أو دعم لها، بل العكس تماماً؟
من جهة أخرى ذلك النظام يقف ساكتاً عما يحصل في سورية في هبوطها إلى القاع عبر تراكم المجازر على يد جماعات الغلو والتوحّش من جهة، وعبر استيلاء الكيان الصهيوني على أجزاء من سورية. فالقمة العربية الأخيرة التي عقدت في القاهرة لم تأت بأيّ عبارة حول الوضع في سورية. فهل ستترك جبهة المقاومة سورية التي قدّمت الكثير وتحمّلت الكثير بسبب المقاومة؟
ومن المفاهيم السياسيّة الجديدة التي أوْجدتها المقاومة إعادة الاعتبار للمبايعة. كان ذلك واضحاً في التشييع الضخم لشهيدي الأمة السيد حسن نصر لله والسيد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليهما). الجماهير الغفيرة التي صدمت المراقبين العرب والغربيين ومن سائر أنحاء العالم والتحدي الجماهيري للاستفزاز الصهيوني في تحليق الطائرات الحربية فوق مراسم التشييع كرّس معادلة سياسية جديدة قديمة وهي المبايعة ليس للشهيدين، بل للنهج والخيارات. مفهوم المبايعة في نسخته المعاصرة هو الاستفتاء الجماهيريّ الذي لم يعد من الممكن القفز فوقه. فالاستفتاء في التشييع أعاد ميزان القوّة إلى المقاومة ونهجها. ولا بدّ من أن يصبح الاستفتاء/ المبايعة قاعدة الخيارات الاستراتيجية التي كانت حكراً على النخب الحاكمة.
لكن ما أكدّته المقاومة في التحوّل في الفكر السياسي هو دور الأرض في المواجهة. القتال من أجل عقيدة شيء والقتال من أجل تحرير الأرض شيء آخر. لكن تلازم القتال من أجل العقيدة وأجل الأرض يعدّل في موازين القوّة. هذا التحوّل فرضته الثورة الجزائريّة وفي ما بعد الثورة الفلسطينية. والمقاومة في غزة ولبنان جعلت من الأرض حافزاً للقتال.
هذه المستجدّات في الفكر والعمل السياسيّ تأخذنا إلى المعادلة الرابعة التي تكمن في المنظومة المعرفيّة السائدة والمستقبليّة في الوطن العربي ولدى المقاومة. فما نريد تبيانه هو أنّ المنظومة المعرفيّة في المقاومة ستكون في المستقبل القريب مزيجاً من الموروث الديني والثقافي والاقتباس العلمي والتكنولوجي. ونجاح عملية “طوفان الأقصى” يؤشّر إلى ذلك. وهذا المزيج سيفرض نماذج إرشادية (paradigms) وأدوات تحليل خاصة بالمقاومة والتي يمكن تعميمها على الجماهير. فالمنظومة المعرفيّة السائدة هي منظومة غربيّة تمّ تعريبها عبر منظومة المدارس وعبر الهيمنة الغربية على الفضاء الثقافيّ على مدى قرنين من الزمن. وإذا كانت الأخلاق عاملاً جديداً في العقل السياسيّ فالأخلاق قد تكون ركن ارتكاز في النموذج الإرشاديّ في الاقتصاد الذي يعتمد المنفعة واللذة كمعيار للحق والباطل. كما أنّ الأخلاق تقود إلى اعتبار مصالح الجماعة فوق مصالح الفرد دون التنكّر لمصالح الفرد. قد نرى ذلك في إقبال الفلسطينيّين على إعادة إعمار غزة عبر التمويل الذاتي وليس التمويل الخارجي الذي سيظلّ مفيداً دون أن يكون أساسيّاً. وقد ينصبّ ذلك التحوّل في مفهوم تمويل المشاريع الإنمائية في الوطن العربي نحو التمويل الذاتي. رأينا ذلك في الحقبة الناصريّة ورأيناها مؤخّراً في مشاريع محدّدة في مصر كتمويل توسيع قناة السويس الذي تمّ بتمويل ذاتي بحت.
التمويل الذاتي الفلسطيني سيقفز فوق الحدود الاصطناعية التي فرضها الاستعمار والتي يتمسّك بها حكّام النظام العربي الموروث من الحقبة الاستعمارية. والقفز فوق الحدود يأتي بعدما تبيّنت وحدة الساحات المقاومة رغم كلّ ما أصابها من استهداف من قبل التحالف الصهيوأميركي. ووحدة الساحات تفتح الباب لإعادة اعتبار مفهوم الوحدة في الوطن العربي كالردّ الاستراتيجي على التفتيت والتقسيم. ما أنجزته المقاومة سواء كانت تعي بذلك أو تطمح له هو إعادة الاعتبار لمفهوم الأمة، إن كانت عربية أو إسلامية.
المعادلة الثالثة هي التحوّل من ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكيّة المعرفة ووسائلها. البعد التكنولوجي للمعرفة في المواجهة يفرض ذلك حيث الاتكال على تكنولوجية مستوردة قد تكون مفيدة في المدى القصير، لكنها تشكّل انكشافاً وتبعية لمن يصدّر التكنولوجيا. المقاومة في لبنان وغزة واليمن برهنت عن قدرة استبطان تكنولوجيا في صنع الصواريخ الدقيقة وفارقة الصوت. لكن لا بدّ من مقاربة تكنولوجية التنصّت ومواجهة التنصّت المعادي كما أنّ في مرحلة جديدة لا بدّ من ابتكار وسائل دفاع جوّي. الصواريخ موجودة لكن رادارات التوجيه ورصد طيران العدو ما زالت مفقودة عند المقاومة. هل هناك استحالة مادية لتملّكها أو ابتكارها؟ المهم هنا هو أنّ طبيعة المعركة المقبلة ستكون تكنولوجية بامتياز دون تراجع دور العنصر البشري في المواجهة الميدانية. المعرفة في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تفرض علينا مراجعة أدوات التحليل ونتائج التحوّلات في المعرفة وموازين القوّة، والتدقيق في موازين القوّة يفرض مراجعة المفاهيم المعتمدة في العلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فعلى سبيل المثال التكنولوجية الحديثة في استنساخ الخلايا قد تؤدي إلى مقاربات جديدة في حق الحياة ومن يحدّد ذلك. كما لا بدّ من طرح السؤال حول أحقّية استعمال الذكاء الاصطناعي في القتل وليس في القتال. من جهة أخرى فإنّ التكنولوجيا الحديثة في الذكاء الاصطناعي قد تؤدّي إلى مراجعة دور عنصر العمل في الإنتاج. فما هي المقاربة حول سياسات الاستخدام في عصر التكنولوجيا الحديثة؟ صحيح أنّ هذه القضايا بعيدة عن ميدان المواجهة مع العدو الصهيوني إلاّ أنّ اعتبار التكنولوجيا منفصلة عن المفاهيم السياسية والاقتصادية والثقافية أمر غير صحيح. لذلك استنباط التكنولوجيا لأغراض المواجهة العسكرية والأمنية يفرض أيضاً مراجعة المفاهيم السياسية والاقتصادية والثقافية. هذه مهمة الجميع، المقاومة والنخب الفكرية المناصرة للمقاومة. فهل ستكون على مستوى المسؤولية؟

*باحث وكاتب اقتصاديّ سياسيّ

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى