نقاط على الحروف

معادلتان خشبيّتان بائدتان في توقيت خاطئ

 

ناصر قنديل

 

تسود الساحة الإعلامية والسياسية محاولات ترويج لمقولات يجري تسويقها باعتبار أنها معادلات تستجيب للواقع اللبناني الراهن في الصراع مع الاحتلال. وتقول المعادلة الأولى إن المقاومة كمشروع لمواجهة الاحتلال قد سقطت، وإن أميركا اليوم تجتاح العالم، وإن “إسرائيل” أظهرت تفوقها المطلق، وإن الزمن العربي هو زمن التطبيع، لتصل إلى استنتاج جوهره دعوة للترويج للتطبيع. أما المعادلة الثانية فتقول إن لبنان قد تعب من حروب الآخرين على أرضه وإنه قدّم لأجل فلسطين أكثر من طاقته وآن الأوان له كي يرتاح، ويخرج من حروب الآخرين. فهل تملك هاتان المعادلتان منطقاً متماسكاً وتنطلقان من قراءة واقعية، أم هما مجرد أوهام وأحلام ورغبات لا علاقة لها بالواقع؟

سنبدأ من المعادلة الأولى، وكي نفحصها بعيداً عن النقاط الخلافيّة نضع المقاومة كخيار والمقاومة كمشروع أو قوى مقاتلة جانباً، وربما يفيد إنعاش الذاكرة بالعودة إلى ما بعد نهاية الحرب الباردة، عندما لم يكن حزب الله قوة تقود المقاومة، ولم تكن حماس تفعل ذلك في فلسطين، وبالقياس لفرضيّة قوة أميركا اليوم وهي قوة تحتاج للكثير من التدقيق، كانت القوة الأميركيّة مطلقة. وبالقياس إلى نظرية التفوّق الإسرائيلي المطلق الذي يسخر منه كبار المفكرين الإسرائيليين وينظر اليه خبراء الاستراتيجيات والشؤون العسكرية بصفته مزحة سمجة، طالما أن هذا التفوّق المطلق كان مسلماً به في مطلع التسعينيات عندما دعا شيمون بيريز لقيام “إسرائيل” العظمى، وكذلك الوضع العربي الراغب بالتطبيع والمقيّد بعودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة واستحالة تجاوزها وربط التطبيع بقيام الدولة الفلسطينية، مقابل التراجع الأميركي عنها والذعر الإسرائيلي من مجرد ذكرها وقد صار صنّاع القرار في الكيان هم مستوطنو الضفة الغربية الأرض المقترحة لقيام الدولة الفلسطينية. ففي التسعينيات كان هناك وضوح أميركي بتبني قيام دولة فلسطينية وقبول إسرائيلي بذلك، وترجمة لكل هذه العوامل، قوة أميركا المطلقة وتفوق “إسرائيل” المطلق وسعي العرب للسلام والتطبيع وقبول أميركي إسرائيلي بمخرج يحفظ ماء وجه العرب اسمه الدولة الفلسطينية، انطلقت عملية السلام في مدريد وتوّجت باتفاق اوسلو، وتخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن السلاح وأعلنت الاعتراف بـ”إسرائيل”، ولم تكن حماس بعد ذات تأثير، لكن مسار مدريد انتهى وأوسلو فشلت، وبدلاً من أن تصبح الضفة الغربية دولة فلسطينية عام 1998 كما تقول اتفاقات أوسلو، صارت عام 2025 مستوطنات لمليون مستوطن مسلّح ينتخبون بن غفير وسموتريتش.

مَن يستطيع تفسير هذا الفشل في ظل غياب أي ممانعة أو مقاومة عربيّة وازنة، يفهم أن فرصة ذهبية غير قابلة للتكرار أتيحت لاختبار إمكانية السلام على غير شروط الاستسلام لشروط التطرف الإسرائيلي الديني، الذي أفشل مسار السلام يوم كان أقليّة إسرائيلية لكن كان لديه ما يكفي ليقتل رئيس حكومة الكيان إسحق رابين، وبات لديه اليوم الكثير الكثير كي يواظب على ما بدأ به يومها، بعدما لم تعُد أميركا التي كانت قادرة على خوض الحروب، قادرة على المساندة بغير المال والسلاح والتغطية السياسية والقانونية، وبعدما لم يعُد جيش الكيان يستطيع التباهي بكونه الجيش الذي لا يُقهر، وصار حق الفيتو السياسي على أي مشاريع حلول هو ورقة القوة الإسرائيلية الوحيدة طالما أنّها تحظى بالدعم الأميركي، وطالما أن العرب يقولون إن أوراق اللعبة بيد أميركا، ولذلك فإن فاقدي العقول والحمقى والمصابين بالخبل العقلي هم فقط مَن يتوهّمون أن هناك فرص سلام وتطبيع وحلول ودولة فلسطينية ولو على الورق؟

في مواجهة استعصاء الحل السياسيّ والسلميّ، كما كان الحال بعد اتفاق الطائف الذي بُني وفي عقول اللبنانيّين والعرب والعالم فرضيّة أن يزامنه انسحاب إسرائيليّ وفق القرار 425، طارت الاحلام، فوجد اللبنانيّون الذين لا يؤمنون بالمقاومة أن ليس بين أيديهم سوى أن يأملوا بأن تنجح بالتحرير ويشتمونها، ويقذفونها بتهمة خوض حروب الآخرين، وعندما تمّ التحرير عام 2000 سارعوا إلى الجلوس في الصفوف الأماميّة لمن يتلقى التهنئة وليس للمهنئين فقط؟

أما جماعة نظريّة حروب الآخرين على أرض لبنان، وما قدّمه لبنان للقضية الفلسطينية، فقد يجدون الكثير مما يدعم نظريتهم، لكن عليهم أن يجيبوا عن سؤالين، الأول لماذا عندما تنتفي الذريعة الإقليميّة للحرب الإسرائيليّة المؤسسة على محاربة طرف غير لبناني، لا تنسحب “إسرائيل” بل تبدأ بطرح طلبات تتصل بالنيل من مصالح وثوابت لبنانيّة؟ أليس هذا ما حصل عام 1982 بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية وبقاء قوات الاحتلال 18 عاماً حتى أخرجتها المقاومة؟ والآن أليست نظرية حرب إيران و”إسرائيل” قد سقطت بخروج إيران من سورية وانتهاء الاتصال الجغرافي بينها وبين حزب الله وانسحاب حزب الله من جنوب الليطاني وانتهاء الاحتكاك الجغرافي بينه وبين الاحتلال؟ فلماذا لا تنسحب “إسرائيل”؟ أليس لأن لديها مطالب من لبنان، مطالب تتصل بالسعي للحصول على مكاسب سياديّة من لبنان؟ أليست التلال أطماع سيادية تعزز أمن “إسرائيل” وتجعل من لبنان مكشوفاً وتعلي مكانة “إسرائيل” وتخفض مكانة لبنان؟ ثم أليس الإصرار على مقولة حروب الآخرين حتى بعد زوال مبررات قولها، هو تبرير لبقاء الاحتلال ودعوة لتجاهل كونه هو الحقيقة الواقعيّة الوحيدة والباقي مجرد سرديات وهمية؟

عن لبنان وتقديم الكثير للقضية الفلسطينية، يحتاج إلى أن يجيب أصحاب النظرية على سؤال التوطين، هل لا يزال منع التوطين من ثوابت لبنان الوطنيّة، وهل ثمّة وصفة لمنع التوطين غير مساندة القضية الفلسطينية حتى يتحقق حق العودة، أم أن الذين يتحدثون عن التعب يريدون التمهيد لقبول التوطين؟

معادلات خشبيّة بائدة في غير توقيتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى