الرجل ـ الأمة الذي بقي يقاتل وحيداً

ابراهيم مصطفى
في تلك اللحظات من الحرب البريّة على لبنان، غابت فيها آمال السكينة، وغطت سماء الجنوب غيوم من الدماء والدموع والعز، كان هناك رجل يقاتل بمفرده، رجلٌ لا يحمل سلاحاً ثقيلاً، ولكنه يقاوم بكلّ ما يملك من عزيمة وإصرار، هو ليس جندياً في جيش نظامي، بل هو رمزٌ للكرامة والبطولة، بلدةٌ بأكملها تحوّلت إلى ساحة حرب، وأصبح الرجل الذي بقيَ يقاتل وحيداً في أحد أحيائها، مثالاً يروي قصص الشجاعة والتحدي في وجه أعتى قوة شيطانية في المنطقة.
الخيام: الجرح الذي صنع اسطورة
تُعتبر بلدة الخيام في جنوب لبنان من أكثر المناطق التي عانت من ويلات الحرب (كغالبية قرى الحافة الأمامية)، حيث دُمّرت بشكل كامل تقريباً خلال العدوان الوحشي الأخير، لكنها كانت أيضاً ساحةً لصمود أبناء الوطن الذين لم يتردّدوا في بذل أرواحهم من أجل الحفاظ على الأرض، في هذه البلدة الرمز،
في تلك الأيام القاسية، كان الرجل الذي بقيَ يقاتل وحيداً مثالاً يُحتذى به، لم يكن يقاتل بمفهوم الحرب التقليدية، بل كان يقاوم بالروح التي لا تعرف الانهزام، والتي ترتقي للحفاظ على الأرض، بالعزيمة التي لا تلين، بالإيمان بعدالة قضيته، والمثابرة على التمسك بكلّ شبرٍ من أراضيه، لم يكن بحاجة إلى السلاح الحديث أو التكنولوجيا المتطورة؛ فقد كانت إرادته وروحه سلاحه الأقوى .
في موازاة الهمجية الصهيونية التي كانت تجتاح الخيام، كانت تلك البلدة تحتفظ بقوة غريبة في قلوب رجالها ونسائها، الذين قاوموا العدو الإسرائيلي بكلّ ما أوتوا من قوة.
الرجل الذي بقيَ يقاتل وحيداً لم يكن يقاوم العدو بالتصدي العسكري فقط، بل كان يقاوم على جبهات أخرى. كانت معركته مع العدو (ثقافية، وحضارية، واقتصادية، كان يقاوم بهويته، بلغته، وعاداته، وجغرافيا الأرض التي لا يمكن أن يفرط بها).
في الخيام، حيث كانت البيوت تحترق، كان الشهداء يقدّمون أرواحهم على مذبح الحرية، هؤلاء الرجال الذين ثبتوا في وجه آلة القتل الإسرائيلية، لا همّ لهم سوى دحر الظلم، وكان منهم رجال لا يعرفون الانكسار، صمودهم أذلَّ مرتزقة الاحتلال، وكان كالصخرة التي لا يستطيع أحد أن يحطم عنفوانها.
الحرب الأخيرة على لبنان لم تكن مجرد عدوان إسرائيلي على أراضٍ وبيوت، بل كانت محاولة لإذلال شعب لا يزال يعاند، في الخيام، حيث كانت كلّ شجرة وكلّ حجر وكلّ حبة تراب يشهدون على ثبات هذا الشعب، ارتفعت أصوات المقاومة بشكل موازٍ للدمار الذي كان يلاحق البلدة، لكن في قلب تلك الحرب، وفي قلب هذا الدمار، برز رجل واحد مثل النخلة التي لا تنحني للعواصف، مثل شجرة الزيتون التي لا تذبل رغم كلّ الجراح، مثل شتلة التبغ التي اعلنت مرارتها عزاً وشموخاً.
الرجل الذي بقيَ يقاتل وحيداً، كان يقاوم الاحتلال ليس فقط بالدماء، بل بالكلمة، بالموقف، وبالرفض المستمر، كان يقاوم في وجه آلة الحقد التي لا تعترف إلا بالقوة العسكرية، وكانت مقاومته تحمل في طياتها معنى الحياة، ومعنى أن لا تنكسر الإرادة مهما كانت الظروف .
ورغم الهجمات العنيفة، والإرهاب الذي مارسه العدو الإسرائيلي، ظلّ هذا الرجل ـ الذي يمثل آلاف اللبنانيين في الخيام ـ صامداً، ثابتاً كثبات صخر الجنوب.
الختام: رجلٌ بمفرده، لكنه كلنا
الرجل الذي بقيَ يقاتل وحيداً في بلدة الخيام، هو صورة لكلّ لبناني، لكلّ فلسطيني، ولكلّ من ناضل من أجل أرضه وهويته، إنه يرمز لكلّ من لم يستسلم، لكلّ من قاوم في الظل، لكلّ من ضحى دون أن يطلب شكراً أو جزاء، هو في الحقيقة ليس وحيداً، بل هو كلّ واحد منّا، هو هوية الأمة وأملها.
في الخيام، كما في كلّ شبرٍ من أرض الجنوب الأبي، هناك رجال ونساء قاوموا بصمت، بعزيمة، وإصرار، هؤلاء هم الذين سيكتبون تاريخ النصر في النهاية، ولن يُفرّطوا في شبرٍ واحدٍ من أرضهم، فالأرض باقية والهوية باقية، والمقاومة هي سلاحهم الأبدي…