ويتكوف وسياسة العصا والجزرة: كيف تحاصر أميركا القرار اللبناني خارج إطار الشرعية الدولية؟

د. محمد حسن سعد
جاءت تصريحات المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، لتكشف مجدداً عن سياسة الولايات المتحدة المستمرة في ممارسة الضغوط السياسية على لبنان، خارج إطار الشرعية الدولية، وبمنهجية لا تخلو من إبتزاز سياسي واقتصادي. هذه التصريحات، التي تتناول الشأن اللبناني من زاوية ضاغطة ومشروطة، تسقط القيم التي يفترض أن تحكم العلاقات الدولية، وعلى رأسها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، كما يتضح أنّ هذه السياسة الأميركية تواكب المواقف «الإسرائيلية» التي تشترط على لبنان اتخاذ خطوات سياسية معينة تخدم أجندتها، وهي مواقف تنتهك حقوق لبنان السيادية في تقرير مصيره وحلّ مشكلاته الداخلية بما يتماشى مع مصالحه الوطنية.
المواقف التي وردت على لسان المبعوث الأميركي، تتناقض مع أحكام ميثاق الأمم المتحدة، القانون الدولي العام، والقانون الدولي الإنساني، التي يجب أن تحكم العلاقات بين الدول وأن تحترمها القوى الكبرى في مواقفها السياسية، وفي طليعتها الولايات المتحدة التي لديها سجل حافل في انتهاك سيادة الدول وخرق القوانين الدولية وعدم احترامها، مواقف ويتكوف نوجزها على الشكل التالي:
أولاً: انتهاك مبدأ السيادة الوطنية وحق تقرير المصير
يدعو ويتكوف بشكل علني إلى إلزام لبنان بالدخول في مفاوضات سياسية مباشرة مع «إسرائيل»، مع تحديد هوية المفاوض اللبناني، فدعوته تعتبر تجاوزاً صارخاً للمادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تشدّد على «مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها» وتحظر «التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لأي دولة».
لبنان، كدولة ذات سيادة، وحده يملك الحق في تقرير كيفية إدارة شؤونه السياسية، ومن يمثله في المفاوضات أو في أيّ مسار دبلوماسي، ففرض إملاءات خارجية بشأن تشكيل وفود تفاوضية يُعدّ انتقاصاً للسيادة واعتداءً على حرية تقرير المصير. كما يعدّ هذا التوجه خرقاً لمبادئ القانون الدولي التي تضمن لكلّ دولة الحق في إتخاذ القرارات التي تمسّ مصيرها السياسي دون ضغوط خارجية، هذا من ناحية، من ناحية ثانية يتناقض هذا التوجه مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 (1960) الذي ينص على حق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية، مع التأكيد على رفض أيّ تدخل خارجي في الشؤون الداخلية للدول.
ومنذ تأسيس الأمم المتحدة، كانت هناك تأكيدات دائمة على مبدأ السيادة الوطنية، هذا المبدأ الذي أُقرّ في الوثائق المؤسسية الدولية، لا يتّسق مع محاولات الضغط من قبل القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية على الدول الصغيرة أو المتوسطة، مثل لبنان، لتغيير سياساتها بناءً على مصالح تلك القوى.
ثانياً: تبرير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية وخرق القرارات الدولية
يتحدّث ويتكوف صراحة عن بقاء «إسرائيل» في «النقاط الخمس» الحدودية المتنازع عليها، ويشترط انسحابها الكامل بامتثال لبنان لمسار تفاوضي محدد، هذا الطرح يناقض تماماً قرار مجلس الأمن رقم 425 الصادر عام 1978، والذي يطالب «إسرائيل» «بالانسحاب الفوري وغير المشروط من جميع الأراضي اللبنانية»، وهو بمثابة تكريس لواقع الاحتلال «الإسرائيلي» للأراضي اللبنانية بما في ذلك مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، رغم قرارات الأمم المتحدة التي تحث على إنسحاب الإحتلال «الإسرائيلي».
انّ الاحتلال بالمبدأ، وفق القانون الدولي، عمل غير مشروع، ولا يجوز تبريره بشرط تفاوضي أو تفاهم سياسي، فالتلاعب بالانسحاب وربطه بمسار يخدم المصالح الإسرائيلية يمثل خرقاً لمبادئ القانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة، ويشرعن استمرار الاحتلال بالقوة، وهو أمر مرفوض قانوناً وأخلاقياً. هذا الأمر يتنافى مع الميثاق الدولي الذي ينص على ضرورة انسحاب القوات المحتلة من الأراضي التي تحتلها، وعدم ربط الانسحاب بأيّ شروط سياسية مسبقة.
هذا الطرح لا يعكس احتراماً للمبادئ الأساسية للقانون الدولي الذي يطالب بإنهاء الاحتلال من خلال آليات دبلوماسية تدعم سيادة الدول وتحترم حدودها المعترف بها دولياً، هذه المبادئ التي انتهكتها وتنتهكها الولايات المتحدة ومعها «إسرائيل» بصورة دائمة، غير أبهين بكلّ القانون الدولي، وهذه مسالة اتسمت بها سياسات كلا الدولتين منذ عقود.
ثالثاً: استخدام المساعدات الإنسانية وسيلة للابتزاز السياسي
انّ أخطر ما جاء على لسان ويتكوف هو ربط إعادة إعمار المناطق اللبنانية المتضررة جراء الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة، خاصة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، بمدى التزام لبنان بدخول مفاوضات مع «إسرائيل»، فهذا الطرح يمثل خرقاً واضحاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 46/182 لعام 1991، الذي ينص على تقديم المساعدات الإنسانية وفق مبادئ الإنسانية، الحياد، وعدم التسييس.
إعادة إعمار المناطق المتضررة يجب أن تكون مسألة إنسانية بحتة، ولا يجوز ربطها بأيّ مناورات سياسية، فاشتراط إعادة الإعمار على توقيع اتفاق سياسي، يحول المعاناة الإنسانية إلى ورقة ضغط تفاوضي، وهو انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، ويجعل المدنيين رهائن لحسابات سياسية لا تراعي حقوق الإنسان وكرامته، كما انّ المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني تفرض تقديم المساعدات على أساس احتياجات الناس وليس بناءً على التزامات سياسية أو شروط مشروطة.
انّ التدخل في هذا المجال يتناقض مع توصيات الصادرة عن الأمم المتحدة في مجال التنمية الإنسانية، التي تؤكد أنّ المساعدات لا ينبغي أن تكون مشروطة بأيّ قرار سياسي. وبالتالي، يتعيّن على الدول الكبرى العمل على احترام مبدأ الحياد في القضايا الإنسانية.
رابعاً: انتهاك الحماية الإنسانية وحقوق المدنيين
دعوة ويتكوف إلى منع عودة الأهالي إلى بلداتهم الحدودية إلى حين تحقيق «التسوية»، تمثل اعتداء على حقوق السكان المدنيين المكفولة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، إذ تنص الإتفاقية بوضوح على حظر العقوبات الجماعية، وضرورة حماية المدنيين وضمان عودتهم إلى مناطقهم.
انّ إبقاء السكان بعيدين عن منازلهم، ومنعهم من ممارسة حياتهم الطبيعية، يشكل عقاباً جماعياً لا يجيزه أيّ نص قانوني دولي، بل يعدّ مخالفةً صريحةً للقواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني، خاصة القاعدة الأولى التي تحظر استهداف المدنيين في النزاعات المسلحة.
هذه التصريحات تجرّ لبنان ومواطنيه إلى حالة من التشريد المستمر، وهو ما يتنافى مع المبادئ التي تحمي حقوق المدنيين في النزاعات المسلحة، وتؤكد على ضرورة حماية حقوقهم الأساسية في العودة إلى ديارهم بأمان.
خامساً: تجريد فئة لبنانية من سلاحها خارج الأطر السيادية
يعتبر منع المقاومة من الاحتفاظ بسلاحها، ليس فقط جنوب الليطاني بل في كلّ مناطق وجودها، وفق طرح المبعوث الأميركي، تدخل مباشر في الشأن الأمني الداخلي اللبناني، والذي يفترض أن يُحسم ضمن المؤسسات الدستورية الوطنية وليس بقرار خارجي مفروض.
وفي هذا السياق نشير إلى انّ ميثاق الأمم المتحدة والقرارات الأممية كافة تؤكد أن تنظيم الشؤون الأمنية والعسكرية يقع ضمن نطاق سيادة الدولة حصرياً، وأي محاولة لفرض قيود أو قرارات خارجية تُعتبر انتهاكاً صارخاً لهذه السيادة، فلبنـان هو صاحب الحق الكامل في تقرير استراتيجيته الدفاعية والأمنية، ويجب أن يتمّ ذلك في إطار القانون والدستور اللبناني فقط، دون أيّ ضغوط أو إملاءات خارجية.
سادساً: الهيمنة على القرارات الإصلاحية والمؤسساتية اللبنانية
يشير ويتكوف إلى أنّ الدعم الأميركي للجيش اللبناني، والمساعدات الاقتصادية، مرهونة بجملة من الإجراءات التي يجب أن تتخذها الحكومة اللبنانية. هذا الربط بين الدعم والتنفيذ الحرفي للأجندة الأميركية يتنافى مع مبدأ احترام استقلالية الدول ومؤسساتها، ويجعل الإصلاحات مشروطة بإملاءات خارجية.
لبنان يحتاج إلى إصلاحات سياسية واقتصادية، لكن يجب أن تكون منبثقة من إرادة وطنية لا من شروط تُفرض قسراً تحت ضغط الحصار الاقتصادي والسياسي، وهذه مسالة احترفتها الولايات المتحدة في تعاملها مع الدول. هذا الفعل يتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان والحق في التنمية، والتي تؤكد على ضرورة أن تكون الإصلاحات محكومة بالسيادة الوطنية وليس بالضغوط السياسية من قوى خارجية.
ختاماً، انّ تصريحات ويتكوف تكشف وجهاً واضحاً لسياسة الهيمنة التي تعتمدها الولايات المتحدة، وتتناقض مع كلّ المبادئ التي تأسست عليها الأمم المتحدة، فمحاولة فرض تسويات سياسية مشروطة، وتبرير الاحتلال الإسرائيلي، وتجريد المقاومة من سلاحها، واستخدام المساعدات وسيلة ضغط، كلها ممارسات تخرج عن نص وروح القانون الدولي.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في دعم الإستقرار والإصلاح في لبنان، وهذا موضع شكّ دائم، فعليها احترام سيادته واستقلال قراره، وإجبار «إسرائيل» على الانسحاب من المناطق التي تحتلها في جنوب لبنان، ومنعها من الاعتداء عليه وخرق سيادته براً وبحرا وجواً، كما وعدم تحويل القانون الدولي إلى أداة انتقائية تُستخدم فقط لخدمة الأجندات الأميركية التي تتصف دائماً بانتهاك سيادة الدول، وبتدخلاتها الفظة في شؤونها باعتبارها قدر الله الذي لا يُردّ…