الزلزال التركي كما السوري تداعيات الطوفان

ناصر قنديل
الأكيد أن طوفان الأقصى لم يكن خطة حرب تحرير توافرت شروط خوضها، ولا هو حرب استنزاف توزّعت الأدوار بين الأطراف التي شاركت في جبهاته من موقع الفعل ورد الفعل، بل هو انفجار كبير أقرب إلى قلب الطاولة الإقليمية والدولية منعاً لمرور الأسوأ. والأسوأ هو انطلاق قطار التطبيع السعوديّ الإسرائيليّ وفقاً لخطة الرئيس الأميركي جو بايدن التي أعلنت في قمّة نيودلهي لقمّة العشرين تحت شعار طرق الهند إلى أوروبا مروراً بالسعودية و”إسرائيل”. والمشروع فيه شق أمني عسكري يهدف إلى خوض حرب مفاجأة تنهي وضع المقاومة في غزة ولبنان دفعة واحدة أو على مراحل، أظهرت حرب الطوفان أن مستلزماتها من خطط ومفاجآت كانت قد أُعدّت منذ زمن.
أحدث الطوفان هذا الارتطام الكبير زلزالاً لا زالت هزّاته الارتداديّة تتواصل، وهو ارتطامٌ بين كتلتين ضخمتين تتواصل الطبقات التكتونيّة لكل منهما على فوالق زلازل غير مرئيّة، كما تتواصل في الجيولوجيا طبقات الأرض التكتونيّة على فوالق الزلازل. وقع هذا الارتطام الكبير بين جبهة تضمّ “إسرائيل” وأميركا ومعهما كل الحلف المناوئ للمقاومة، وجبهة تنتشر على مساحات عدة دول في المنطقة وتضمّ قوى المقاومة، وفرض الحرب دون توقيت مفاجئ، ما أفقد المفاجآت الكثير من بريقها وقدرتها على إنهاء الحرب، وأصيب الطرفان بجراحات بليغة واستراتيجيّة، والحرب لا تزال مستمرّة، يصعب إعلان نهايتها على الجبهة الأميركيّة الإسرائيليّة وجسم المقاومة على قيد الحياة، ومن تبقي هذه الحرب حيّاً يصعب شنّ حرب أشد قوة عليه في المستقبل القريب والمستقبل المتوسط، لأن كما أتيح للفوز بهذه الحرب غير قابل للتكرار، عالمياً، إسرائيلياً وإقليمياً.
خسائر المقاومة كثيرة، وبعضها يصعب تعويضه، والتحوّلات التي فرضتها هذه الخسائر تغيّر مسارات استراتيجية في الإقليم، كما هي نتائج الحرب على لبنان، لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن ما لحق بكيان الاحتلال يصعب إصلاحه، خصوصاً على مستوى قدرة جيش الاحتلال على خوض حرب برّية، أو على مستوى أهليّة القبة الحديدية لضمان أمن الجبهة الداخلية، أو ما ترتّب على هذين الأمرين من اتساع دائرة الشك بقدرة جيش الاحتلال على ضمان أمن الكيان. وهذا ركنٌ من ركني المأزق الوجوديّ. والركن الثاني هو قدرة الردع التي تتجسّد بالقدرة على خوض حرب خاطفة وتحقيق نصر حاسم وقد انهارت منذ زمن بعيد. ومع هذه الخسائر المتقابلة الضخمة، يصبح كل استعراض قوة مفتوحاً في ساحات الصراع أقرب لحال إنكار حقائق الخسائر منه إلى احتفال بالنصر.
في قلب هذه اللحظة، كانت خسائر المقاومة اللبنانية وعلى رأسها غياب القائد التاريخي للمقاومة، عاملاً حاسماً إلى جانب العقوبات الأميركية والضربات الإسرائيلية لخلق بيئة مناسبة لضربة تركية خاطفة تسقط سورية، وتدخل هيئة تحرير الشام وزعيمها إلى دمشق فاتحَين، لكن هذه المغامرة التركيّة بما فيها من تغيير قواعد العلاقة مع حليفين مهمين هما روسيا وإيران، بُنيت على فرضيّة الاعتقاد التركيّ بأن حجم المكاسب الأميركيّة والإسرائيليّة المحققة جراء نجاح السيطرة على سورية، سوف تضمن تعاوناً أميركياً وإسرائيلياً لإنجاح مشروع تركيا في سورية، فترفع فوراً العقوبات الأميركيّة والغربيّة على سورية، ويتنفس الاقتصاد والمجتمع فيها، وتُنهي الكانتون الكرديّ المحميّ أميركيّاً شمال شرق سورية، وتُحرّر فيه ثروات سورية المسروقة، ويستعدّ الأميركي والإسرائيلي إلى مغادرة سورية وتفويض تركيّ بإدارتها، وإدارة أجزاء مهمة من الإقليم عبرها.
مشكلة المغامرة التركيّة أنّها قامت على استثمار عائدات الطوفان، وما تسبّب به من ارتطام استراتيجي تاريخي كبير، أنها راهنت على سخاء أميركي إسرائيلي لا يبدو أنه ينسجم مع تقدير الطرفين لطبيعة المرحلة ونتائج الحرب، حيث حالة الضيق التي تعيشها “إسرائيل” بفعل ما لحقها من أضرار لا تسمح بترف تقديم الجوائز لتركيا، فظهرت الفوضى في العلاقة بين المكوّنات الطائفيّة في سورية ومعها هشاشة الدولة أمام مطالب إسرائيليّة محمية بالعقوبات الأميركيّة، وعامل تشجيع للاحتفاظ بالشمال الكردي والجنوب الدرزي بسلاحهما وخصوصيتهما، وجاءت مجازر الساحل التي استهدفت العلويين كمكوّن سوريّ هام، سبباً لمزيد من التردد في الاستثمار العربي والغربي على الحكم السوري الجديد، والتسبّب بالمراوحة في مكان أشدّ صعوبة من الذي كانت فيه سورية قبل المغامرة التركيّة.
الداخل التركيّ الواقع تحت وطأة أزمة اقتصادية ممتدّة منذ سنوات، والواقع في فراغ استراتيجيّ، بعد المحاولات الفاشلة لحل الأزمة الداخليّة بتكبير حجم الدور التركيّ في الخارج، من أذربيجان إلى ليبيا، تلقّى تداعيات الانسداد في الرهان على السيطرة على سورية، كثمرة من ثمرات الاستثمار الانتهازيّ على تداعيات الطوفان، وكانت نتائج التلقي متعاكسة إلى حد التسبّب بالانفجار، فانقسم الإسلاميّون الأتراك بين مناصرين لغزة يتّهمون الحكم التركيّ بالتلاعب بالعنوان الفلسطيني، بينما يرفرف العلم الإسرائيلي فوق السفارة الإسرائيلية رغم قيام دول لا تدّعي صلة بالإسلام بقطع العلاقات بـ”إسرائيل”، ومقابل مناصري غزة الذين ربحوا في الانتخابات الأخيرة بعضاً من شعبية حزب العدالة والتنمية، ظهرت فاشية إسلاميّة عنصريّة تحت عنوان العثمانيّة الجديدة، متطرفة في تعصبها ودمويّتها، لكنها فشلت في توفير شروط النهوض بسورية عبر الحكم الجديد. وجاء الفشل في سورية كافياً لاستنهاض علويّي تركيا ضد الحكم ومثلهم الأكراد، وقبلهم رجال الأعمال الذين تبخّرت أحلامهم بدور إنقاذيّ لإعمار سورية بالنسبة للاقتصاد التركي، وجاء الانفجار زلزالاً يحمل بصمات الطوفان.
لا زال الطوفان يضرب مجدداً، وقد صار بحجم العالم يُعيد صياغة وعيه ويُعيد تشكيل روايته عن فلسطين، ويُعيد تركيب مكانة “إسرائيل” في العالم. وتركيا وسورية اليوم تعيشان تداعيات الزلزال الذي انطلق مع الطوفان، وهذا الارتطام الكبير الذي تسبّب به، وحيث لا أحد يملك قدرة تخيّل الاتجاه الذي سوف تسلكه موجات تساقط حجارة الدومينو بفضله، فهل يكون السقوط نصيب اللاعبين أم المتلاعبين، أم بعض من هناك وبعض من هنالك؟