«لبنان الكبير» في مواجهة احتلال «إسرائيلي» وابتزاز أميركي وإرهاب تكفيري!

د. عدنان منصور*
ما يجري في جنوب لبنان وشماله الشرقي، ينبئ بنذُر خطيرة تضع هذه المرّة على المحك، وحدة لبنان، وسيادته وحدوده الجغرافية الدولية، ومصير طوائفه دون استثناء.
ما الذي يمكن للدولة أن تتخذ من قرارات حازمة، ومواقف صلبة، حيال ما يُرسَم ويُخطّط للبنان من سياسات وإجراءات عمليّة تنفذها على الأرض جهات دولية وإقليمية، اتفقت في ما بينها على خطط وتسويات، ومشاريع مشبوهة، تطال في الصميم وحدته الوطنيّة، وسلامة أراضيه، ونسيج شعبه.
لا يظنّن أحد أنّ اتفاق وقف إطلاق النار مع «إسرائيل»، أوقف الحرب ووفّر للبنان الأمن والسلام.
إذ إنّ وقف إطلاق النار التزم به لبنان وحده، فيما العدو الإسرائيلي آثر منذ اللحظة الأولى على الاستمرار في حربه، وهي حرب استنزاف مكشوفة، وعدوان متواصل، دون أيّ رادع، او إجراء عمليّ من جانب الدولة اللبنانية، باستثناء الجهود الدبلوماسية المتواضعة التي يقوم بها المسؤولون، والتي لم تثمر حتى هذه اللحظة عن تحقيق هدفها.
هذا العدوان «الإسرائيلي» المتواصل على لبنان وشعبه، يتمّ أمام صمت، ودعم خبيث، وغطاء كلي وقح من قبل الإدارة الأميركية، على كلّ ما تفعله دولة العدوان بحق لبنان، وما يقوم به جيش الاحتلال «الإسرائيلي» يومياً على مرأى من اللجنة الخماسية ورئيسها الأميركي من قصف، وقتل، وتوغل، وهدم، وخطف، وترهيب، وتهديد، دون أيّ ردّ فعل حازم من قبل الولايات المتحدة وفرنسا المنتميتيْن إلى اللجنة الخماسية.
تزامناً مع استمرار العدوان «الإسرائيلي» يشهد شمال شرقي لبنان، استفزازات واعتداءات من قبل مجموعات إرهابية تكفيرية، تتناغم في أهدافها مع ممارسات «إسرائيل» واعتداءاتها اليومية المتواصلة، لتضع لبنان بين فكي كماشة: إرهاب دولة الاحتلال في الجنوب، وإرهاب العصابات التكفيرية في الشمال الشرقي من البلاد.
لم يكن الخرق الفاضح لاتفاق وقف إطلاق النار من جانب «إسرائيل»، ولا اعنداءات المجموعات الإرهابية في الشمال ليحصل، لولا الدعم والغطاء السياسي، والموافقة المسبقة لواشنطن حيال ما يجري في لبنان وسورية، وغزة والضفة الغربية.
واشنطن تريد أن تنتزع من لبنان عبر ممارسات الضغوط، والإملاءات، والإكراه، والابتزاز، والمقايضة، وسياسة الأمر الواقع، مواقف وقرارات لبنانية متقدمة، تلبّي مصالح الولايات المتحدة، وتتناغم مع سياساتها ومشاريعها في المنطقة. والأهمّ من ذلك، تعرية لبنان من أيّ قوة فاعلة، أو مقاومة وطنية حقيقية، تقف في وجه أطماع «إسرائيل»، واعتداءاتها، واندفاعها في التوسّع، وتسريع التطبيع مع لبنان دولة وشعباً، دون قيد أو شرط. قرارات تريد منها واشنطن أن تصبّ في خدمة السياسات والمصالح الأميركية ـ الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، مما
يساعدها في ما بعد على تفكيك كلّ العقد، وإزالة كافة الحواجز التي تعرقل وتعيق تنفيذ المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي برمّته، لجهة طي صفحة القضية الفلسطينية نهائياً، وبعدها تشريع أبواب دول العالم العربي والإسلامي للعصر «الإسرائيلي» الجديد والتطبيع النهائي معه.
مَن يتصوّر أنّ الولايات المتحدة، أو تركيا، أو «إسرائيل» حريصة على استقرار دول المنطقة، والحفاظ على وحدة أراضيها وسيادتها واهم وأحمق. ألم ينخرط هذا الثلاثي معاً، بشكل مباشر في العمليات العسكرية ضدّ أكثر من بلد في المنطقة، ويدخل في لعبة التدمير والقتل والتهجير؟ ألم يتوزّع احتلال كلّ من تركيا، والولايات المتحدة، «وإسرائيل» على أجزاء من العراق وسورية ولبنان؟! من موّل ودرّب، وسلّح، ودعم المجموعات الإرهابية التكفيرية القادمة من الخارج، وعلى رأسها «داعش» التي أمعنت في تدمير العراق وسورية، وضمّت في صفوفها آلاف المقاتلين التكفيريين الذين أتوا من أنحاء العالم؟! في خدمة مَن كانت هذه الفصائل التكفيرية التي أنشئت بإرادة ورعاية أميركية، وأقرّ بها لاحقاً الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون؟!
الولايات المتحدة بعد مواقفها السلبية، وابتزازها السياسي، وضغوطها المالية على لبنان، وتمنّعها عن العمل الفعلي المباشر لإرغام «إسرائيل» على وقف عدوانها، وإلزامها على احترام وقف إطلاق النار، ألا تعطي بموقفها المعيب هذا، الضوء الأخضر لكيان الاحتلال، لتغيير الحدود الدولية، والاستيلاء على أراضٍ داخل الجنوب اللبناني، وتغيير الديموغرافيا فيه، لإجبار المواطنين اللبنانيين قسراً على الرحيل عن بلداتهم نهائياً، كي يخلو الجو بعد ذلك لـ «إسرائيل» وعملائها، ليعيدوا الجنوب إلى سيرته الأولى، عندما كان يرزح تحت نير الاحتلال الصهيوني وعملائه قبل عام 2000؟!
أما في الشمال الشرقيّ، يبدو واضحاً أنّ شهية الفصائل السلفية التكفيرية، تنتهز الفرصة كي تنقض على لبنان، والتشفي من طوائفه، ومن كلّ مَن هو بعيد عن فكرها المدمّر، وعقيدتها العنصرية المتطرفة المتحجّرة. هذه الفصائل والمجموعات التكفيرية ترفض بالمطلق الآخر، ولا تتقبّل وجوده، لذلك لن تتورّع، أو تتردّد لحظة في اللجوء إلى ارتكاب مجازر همجيّة، وجرائم قتل وإبادة جماعية بحق المدنيين الأبرياء. أليس هذا ما فعلته بحق الازيديين وسبيهم، وبيعهم، وأيضاً قتل وتهجير أبناء الطوائف المسيحية من كلدان، وأشوريين، وسريان، وأرثوذكس، وكذلك بحق الآلاف من السنة الأحرار، عراقيين عرباً كانوا أم أكراداً، وبحق أبناء طوائف العلويين، والإسماعيليين والشيعة وغيرهم؟!
بعد كلّ الذي جرى ويجري اليوم، فإنّ جميع الطوائف اللبنانيّة دون استثناء، مدعوّة لمواجهة الخطر الكبير الذي يهدّد حياتها ووجودها، إذ لا وقت ولا رجاء، ولا أمل من الرهان على الآخر والاحتماء به، أو التعويل والاعتماد على الدول الكبرى، التي أثبتت للعالم كله بسياساتها المنحازة وأهدافها وممارساتها، ونفاقها، أنها على استعداد، دون تردّد وفي أيّ زمان ومكان، للتضحية بالشعوب المقهورة، طالما أنّها تضع مصالحها فوق القيم، والأخلاق والمبادئ الشريفة، وفوق كلّ اعتبار.
في كلّ عصر وزمان، لا مكان للضعفاء في ظلّ جبروت الأقوياء، والطغاة المتوحّشين. منذ فجر التاريخ، سحقت الممالك والإمبرطوريات، والقوى الكبرى في طريقها دولاً، وشعوباً، وقوميّات، وطوائف من كلّ لون. لذا فليأخذ اللبنانيون بكلّ طوائفهم وانتماءاتهم، وعقائدهم العبرة من دروس التاريخ، وليتّحدوا على موقف وطنيّ جامع، يبعد عنهم واقع الاحتلال، وشبح تذويب الوطن اللبناني، وتقسيمه على يد دولة الاحتلال «الإسرائيلي»، وقوى الفصائل التكفيرية المدعومة من دول إقليميّة ودوليّة.
لا تدَعوا لبنان يعود إلى ما كان عليه قبل عام 1920، حتى لا يُقزّم من جديد، وتصبح طوائفه هباء منثوراً، تتناحر في ما بينها، تتقاتل وتنتحر.
مثل ما الدولة مسؤولة وهي تواجه التطورات الخطيرة الجارية، فإنّ زعماء الطوائف والأحزاب، وما لديهم من تأثير مباشر على أبناء رعاياهم، ومحازبيهم، مسؤولون مباشرة لتوحيد الصف اللبناني، طالما أنّ الجميع أمام تحدّ وخطر وجودي، وامتحان عسير. لا يمكن لأيّ قوة في العالم أن تفرض إرادتها على لبنان وتنال منه، إذا ما تشكلت جبهة عريضة، مرصوصة، موحدة، تستطيع بإرادة اللبنانيين، إفشال وإحباط أيّ مشروع سياسي خارجي، أو عدوان عسكري، أو إجراء تعسّفيّ ينال من وحدة شعبه وأرضه!
هل يعي اللبنانيون، مسؤولين وأفراداً، مدى خطورة المرحلة المقبلة التي ينتظرها لبنان، وما يحضر له على يد واشنطن وتل أبيب وحلفائهما من المنظمات والفصائل التكفيرية في المنطقة؟!
لا تدعوا قوى الظلام تعمل على سلخ لبنان عن جنوبه وعن شماله، حتى لا يتحوّل لبنان الكبير إلى لبنان صغير، يكون في عهدة دول الهيمنة والاستبداد الخارجية، تعبث وتفعل به مثل ما فعلت بحقه في عهد المتصرفية، إنه وقت الاستحقاق، والمسؤوليّة، والنفير العام، ولا مجال مطلقاً للسكوت أو التراخي. إنّ ما يقوم به الجيش اللبناني الباسل بمشاركة أبناء الوطن الذي يستحقونه فعلاً، وما يقدّمونه معاً من تضحيات جسام في الأرواح والممتلكات، لهو مشرّف جداً، ويعبّر عن قرار وطنيّ واضح اتخذه رئيس الجمهورية، لمواجهة المجموعات الإرهابية في شمال لبنان، والدفاع عن سيادة الوطن وكرامته، وأرضه وشعبه، وهذا ما نريده في كلّ بقعة من بقاع لبنان لا سيما في جنوبه.
إنها مسؤولية الجميع كي لا يتحوّل لبنان إلى «متصرفية» جديدة!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق