قصر هرقلة… صرح أثريّ على ضفاف الفرات
لورا محمود
تعتبر مدينة الرقة، لؤلؤة المدن الشرقية في سورية، ومركزاً من المراكز الحضارية، ومدينة مهمة استراتيجياً وتجارياً عبر التاريخ، إضافة إلى غناها بالآثار والأوابد التاريخية، كقلعة جعبر، وأسوار الرافقة، وتلّ الخويرة، وقصر هرقلة، أحد قصور الرقة الفريدة، والصرح التذكاري الذي أُنشئ تخليداً لذكرى الانتصارعلى الروم، وأكثر القصور غرابة بين القصور العباسية في الرقة.
يقع قصر هرقلة على بعد سبعة كيلومترات من مدينة الرقة الواقعة على نهر الفرات، أنشأه هارون الرشيد تخليدا لذكرى الانتصار الكبير على الروم، وفتح ئدينة هرقلة وتحريرها.
ينسب المؤرخون آثار هرقلة إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد، ومصدر التسمية مدينة هرقلة في بلاد الروم موقع أريجلة في تركيا حالياً .
ذكرها كل من ياقوت الحموي والطبري على أنها بناء عجيب من أعمال الخليفة هارون الرشيد. وخلافاً لغالبية المواقع الأثرية، فإن قصر هرقلة ينفرد بأنه الموقع الأثري الوحيد الذي ما زال يحمل اسمه الأساسي القديم.
وقديماً، ضرب أهل الرقة في هرقلة الأمثال، فقيل أبعد من هرقلة، أو فلان ساكن هرقلة نظراً إلى بعده عن مكان سكنهم الأول. ولسيادة اعتقادهم أن الجنّ يسكن الأماكن غير المأهولة بالبشر، فإنّهم كانوا يعتقدون أنّ الجنّ قد سكن القصر، فكانوا يتجنّبون المرور به.
لقصر هرقلة شكل مربّع يتربع فوق السطح على هيئة مصطبة طولها وعرضها متساويان، ويصل ارتفاعها إلى أكثر من ستة أمتار، له أربعة أبراج ضخمة دائرية الشكل، أضلاعه الثلاث أواوين تنفتح نحو الخارج قبالة أربع بوابات كبيرة تتموضع على سور دائري يحيط بالقصر.
أما آثار القصر وسوره، فتتربع فوق تربة زراعية حقلية، ما جعل المعماري الذي خطّط لبنائه يبني قاعدة قوية وصلبة من شأنها أن تحمل ثقل هذه المنشأة التي كان يريد بناءها، وشيّدت القاعدة من الحجر الحواري الذي كان يجلب من الجبل القريب من الرقة.
تعتبر القاعدة مع الجدران الخارجية للمصطبة والإيوانات الأربعة، وكذلك الأدراج وجدران الحشوات الداخلية جميعها مشيدة من أربعة عناصر: الحجر الحواري والحجر الكلسي الهشّ والآجر المشوي والملاط الجصي المشوي والحصى النهري. لقد استخدم الحجر الجصي في هرقلة في بناء البوابات والسور ودعاماته وتتراوح مقاسات كل واحدة من هذه الأحجار بين 70 و90 سنتمتراً، أما الجدران الفاصلة فقد استعمل البناؤون في تشييدها قطع الحجر الجصي المستطيلة.
الحجر الكلسي الهش هو من النوع القابل للتآكل ويتأثر بعوامل التعرية من رياح وأمطار وغيرها، وقد استخدم هذا النوع من الحجر منحوتاً بقطع تتراوح قياساتها بين 50 و120 سنتمتراً في بناء واجهات الجدران الخارجية للبناء الرئيس والأبراج والإيوانات الأربعة.
ويعتبر قصر هرقلة، الموقع العباسي الوحيد في الرقة الذي له سور دائري الشكل قطره 510 أمتار، مبني من الحجارة الجصية البيضاء فوق أساس حجري على عمق متر واحد من سطح الأرض الخارجي. تتراوح سماكة هذا السور بين 250 إلى 270 سنتمتراً، تتكئ عليه من الخارج دعامات على شكل أبراج مستطيلة الشكل تبرز عن جسم السور الخارجي مقدار مترين ونصف المتر، وطول الضلع الخارجية لها 5.60 متر، وتتراوح المسافة بين كل دعامة وأخرى بين 18 و19 متراً. أما داخل السور فهو الآخر معزّز بدعامات أصغر حجماً، والمسافة بين الواحدة والأخرى حوالى 20 متراً.
ساعد في التعرف على المعالم الأثرية لهرقلة الصوَر الجوية التي حصلوا عليها من المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، وكانت هذه الصور قد أعدّت أثناء الدراسة الطبوغرافية والتاريخية التي أعدها كل من العالمين سارة وهرتزفيلد في بداية القرن الماضي، وهذه الدراسة أوضحت عدة أمور منها ظهور المصطبة المربعة التي تخفي في باطنها أقسام المبنى الرئيس للمنشأة المعمارية، وظهور قناة سطحية جافة قادمة من جهة الغرب وتتجه نحو مدينة الرقة، وهذه القناة تجتاز الجزء الجنوبي من السور. وعنها أشار هرتزفيلد بأنها ربما تكون هي قناة النيل أو نهر النيل الذي اشتقه الخليفة هارون الرشيد من الفرات لإرواء الأراضي الواقعة شمال غرب الرقة، والتي لا يمكن سقيها من نهر البليخ القريب من هذه الأراضي بسبب ارتفاعها الملحوظ عن مستوى مجرى النهر.
إن مستودعات مبنى هرقلة الأثري كانت ضحيّة نهب المسلحين، بعد أشهر من سقوط الرقة. وقد عمل موظّفو مديرية آثار الرقة قبل سقوطها على وضع أبواب حديدية لمستودعات مبنى هرقلة، ولم يخبروا حتى الحدّاد الذي أنجز العمل، أيّ تفاصيل. وبعد إقفال الأبواب، جرى ردمها، وتغطيتها تماماً بالتراب. إلا أنّ الأمر لم يدم طويلاً، إذ هاجم ما يقارب 100 مسلّح مستودعات مبنى هرقلة الأثري، بعد سقوط المدينة، وسطوا على محتوياتها.
وبعد سيطرة «داعش» على المدينة، عمل على إحداث هيئة مختصّة بشؤون الآثار، مهمّتها الإشراف على المواقع الأثرية، وافتتاح عمليات تنقيب منظّمة فيها، باستخدام أدوات وآلات حديثة، على عكس ما جرى في بداية دخوله، حيث دمّر، بالجرّافات، تمثالين لأسدين آشوريين، عند مدخل حديقة الرشيد.
واليوم، يشرف «أمراء» من جنسيات مختلفة على المواقع الأثرية، والتلال والقلاع، وعمليات التنقيب تجري بواسطة أجهزة حديثة جداً، تستطيع رصد ما تحت الأرض. ويتركز اهتمام الأمراء على الآثار العائدة إلى العصر الروماني، ولا يعيرون اهتماماً للآثار الإسلامية. أما المكتشفات، فتحفظ في صناديق، بعد تصويرها، وإرسال صورها إلى تجّار مختصين في تركيا. وبعد الاتفاق على السعر، تُشحَن عبر خطوط التهريب، في مدينة تل أبيض بالحسكة.
فشلت جميع المحاولات، المدنية والرسمية، في حماية آثار مدينة الرقة، بل أصبح التنقيب عن الآثار، وبيعها في السوق السوداء، تجارة مشروعة ومقوننة، وفق قوانين «داعش».
والجدير ذكره، أنه في أيار 2012، نُهب متحف الرقة وسُرقت منه نحو 17 قطعة أثرية، يعود معظمها إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وهي من أهم الشواهد المتبقية لموقعي «إيمار» و«تل السلنكحية» اللذين غمرتهما مياه بحيرة الأسد بعد إنشاء سدّ الفرات في سبعينات القرن الماضي. ويعدّ تمثال الإلهة عشتار من أهم المسروقات, وتاريخياً، تعود آثار الرقة المكتشفة إلى حقب متعدّدة ومنها ما يعود إلى عام 8500 قبل الميلاد.