في البدء كان الفعل وبعد ذلك الكلمة…!
نصار إبراهيم
«لا تسل عن سلامته، روحه فوق راحته
يرقب الساعة التي بعدها هول ساعته
حملته جهنم طرفاً من رسالته
فاهدأي يا عواصف خجلاً من جراءته»
في البدء كان الفعل وبعد ذلك الكلمة… من القدس يصعد الطريق إلى السماء… فسبحان الذي أسرى به ليلاً… وفي القدس تكون القيامة ومن هناك إلى السماء…
هناك… وقبل أيام… على المقلب الآخر من الكرة الأرضية، اجتمع مئات الأعضاء من الكونغرس الأميركي وصوّتوا على نقل سفارة أميركا إلى القدس.
وبعد أيام… وفي القدس هنا… اجتمع شاب فلسطيني اسمه فادي القنبر مع نفسه واتخذ قراراً يعادل شعباً… فتحوّلت فوراً ابتسامة النصر على وجه نتنياهو إلى حالة رعب وارتباك…
فكيف لشاب فلسطيني أن يعادل جيشاً!؟ كيف لشاب فلسطيني أن يتخذ قراراً ويترجمه فوراً فيجعل من قرار أعتى قوة على وجه الأرض مهزلة!! كيف!؟
ذلك هو غباء القوة الغاشمة المعتدية حين تعتقد أنها لا تُرَدّ… ولهذا فهي تنسى دائماً بديهيات التاريخ… فتسقط في أوهامها وفي مصيدة الغرور… فيعاقبها التاريخ بقسوة.
حين تلتبس اللحظة وتفقد اللغة دلالاتها، حين يغرق الخطاب في الميوعة، وحين يبدو أفق الوعي رماديا، حين ترتبك الحدود ما بين الأسود والأبيض… حينها ينبجس دم فلسطيني كالنرجس البري من بين مفاصل الناس البسطاء من هنا وهناك فيعيد ضبط البوصلة.
رشيق كحمام الصباح الخافق في بهاء الشمس فوق قباب القدس… يأخذ الفادي» سوطه ليطهّر المدينة، ويعيد تصحيح المعادلات…
لم يثرثر… نهض بعزم فلاح فلسطيني بارع من سهل مرج ابن عامر وراح يحرث الأرض بصمت…
مضى وهو يفكر: الكلمات لا تعطي قمحاً… والأرض الفلسطينية لا تعطي قمحاً إلا حين نحرثها ونبذرها ونحرسها.
عصفور الشمس الفلسطيني هذا يعرف بفطرته أنّ معادلات الحرية والتحرّر محكومة بالتاريخ البشري ونبوءة المقاومة، فبالأصل كان الفعل وبعد ذلك الكلمة…
في كلّ مرة يسقط الوعي السياسي العاجز في اختبار التاريخ… ولهذا فإنه ومع كلّ مبادرة للمقاومة يقنع نفسه بأنها مجرد حدث عابر مقطوع الجذور عن الذاكرة والواقع… فيمضي في خياراته محاولاً إقناع شعب مشرّد ومقاوم بالطبيعة بأن لا أفق إلا ما تسمح به معادلات الخصم وشروطه.
هذا الوعي الهش الضيّق المحاصر بمعادلاته البائسة لا يقرأ سياقات التاريخ… ولا يرى معادلات الشعب الفلسطيني العميقة… تلك هي معضلة الذاكرة المثقوبة التي لا تتذكر أبجديات الحياة…
لهذا تقف في كلّ مرة أمام مبادرات الشعب الفلسطيني في المقاومة تغمرها الدهشة… وهي تردّد في داخلها: كيف؟ ومن أين ؟ ولماذا يحدث؟
تقول ذلك مع أنّ المعادلة بسيطة وواضحة كالصباح: أن لا يحدث ذلك هو الأمر غير الطبيعي… أن لا يحدث ذلك هو ما يجب أن يثير الأسئلة…
هذه البديهة البسيطة هي التي تكشف في كلّ مرة معضلة ثقافة القوة الغبية من جانب، وثقافة الهزيمة من جانب آخر…
أما الشعب الفلسطيني فإنه يودّع شهداءه ويواصل بوعيه الجمعي وذاكرته الممتدّة ما يجيده المقاومة… ويردّد بصبر الأمهات:
«علينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء».