1949 معركة سحمر 6
اياد موصللي
النظام في الحزب السوري القومي الاجتماعي هو أحد قواعد الثقافة الحزبية، وهو ترس القوة، أهمية النظام انه تلقائي ذاتي وجداني إيماني مبعثه انصهار كامل بين الإنسان والإيمان، وتنفيذه والتقيّد به ناتج مما ذكرنا، وعدم تجاوزه وليد خشية مناقبية تسجل انحرافاً بحق المتجاوز لهذا النظام، وكلّ قومي نظامي يخشى هذه الصفة الانحرافية..
معركة سحمر كشفت تجذر النظام في وجدان القوميين.. أهمّ البراهين.. قوميون منتشرون في سهل واسع تحيط بهم عناصر معادية مسلحة ترميهم بنيرانها التي تتطاير مع الشظايا والقذائف فوق رؤوسهم، أعداهم قليلة أمام خصم يعدّ بالمئات.. لا يستسلمون إلا إذا جاءتهم الأوامر بذلك فلا يريدون ان يوصموا بالجبن والتهاون إذا ما استسلموا رغم انّ الموقف لا يحتمل حلاً آخر عندما طلب منهم الجنود عبر مكبرات الصوت الاستسلام رفضوا وطلبوا مني ان اتخذ القرار وأعطيهم الأمر.. حيث انني كنت المسؤول الوحيد المتواجد معهم، وكان الصدر عساف كرم في موقع آخر وترك لنا اتخاذ الموقف الذي نراه مناسباً، وفعلاً طلبت اليهم الوقوف وإعلان تسليم أنفسهم بعد ان سبقتهم إلى ذلك.. وأسعد جواد يحمل على كتفه حقيبة متفجرات ولا يرميها رغم خطورتها الا بعد ان تلقى أمراً بذلك.. ما هذا الإيمان ما هذا الانضباط.. ماذا فعلت يا أنطون سعاده؟
وهذه تفاصيل معركة سحمر.
أمرنا الصدر عساف بالتحرك فسرنا حتى اجتزنا منحدراً وهبطنا سهلاً أجرد ليس فيه إلا الحصى والرمل، ومنبسطاً مثل الكفّ، ولمحنا جنوداً يتمركزون في الجهة الأخرى من النهر ومصفحات بقربهم أخبرت الصدر عساف فقال لي الحق بحمادة اليوسفي وكان يحمل رشاش «برن» انكليزي، وما كدت أحاذي حمادة وعدد من الرفقاء خلفي، حتى دوّت فوق رؤوسنا قذيفة دبابة فانبطحنا أرضاً وبدأ الرصاص ينهمر بشدة وكثافة من عدة جهات والمهاجمون بعيدون عن الأنظار، وتفرّقنا في الوادي الواسع وقيل لي إنّ النار تطلق علينا من الجهة المقابلة فأطلقت بذلك الاتجاه خمس طلقات، أدّت لفتح النيران بشدة وغزارة من تلك النقطة وحاول الرفيق حمادة أن يطلق الرصاص من رشاشه فلم يشتغل وبدا أنه معطل فرماه وزحف وتمكن من الهبوط في الوادي وتبعه محمد الزعبي… تقدّمت قليلاً فرأيت الرفيق أسعد جواد وكان يحمل على ظهره حقيبة ديناميت ومتفجرات وعلى رأسه كوفية حمراء فطلبت منه نزع الكوفية لأنها علامة يمكن رؤيتها من بعيد، وفكرت في التقدم واجتياز المنطقة حيث هنالك واد يمكن أن نجد فيه ما يمكن استخدامه متراساً ومكاناً يصلح لإطلاق النار، لأنّ مكاننا الحالي غير مؤهل إطلاقاً، كلّ هذا والرصاص يتطاير من حولنا ناثراً الحصى والغبار، وسألني أسعد هل أرمي الحقيبة؟ فقلت نعم لئلا تصيبها رصاصة فيتفجر كلّ ما في الحقيبة، ولدى وصولي قرب الوادي حاولت أن أركض للقفز نحوه وإذا برصاصة تمرّ فوق رأسي وتبعها صراخ يدعونا للاستسلام…
كان الخصم أمامنا في الجهة المقابلة وبذلك أصبحنا ضمن طوق محكم… وبدأت النيران تطلق بكثافة لتغطية الهجوم… وبدأت أفكر بالمشكلة.
هجوم واسع من كلّ الجهات نيران كثيفة ونحن في أرض جرداء عددنا 14 رفيقاً في هذه البقعة، ليس معنا سوى سلاح محدود، الجنود يشاهدوننا من مرتفعاتهم ونحن لا نرى احداً… كان في مكان قريب الرفيق نصير صالح ريا وهو في مكان منعزل، ناداني وقال: هل أطلق النار فقلت له لا، لأنّ ذلك سيُستتبع بنار معادية قد تقضي على رفقائنا كلهم… وفيما نحن كذلك برز وقوفاً ما يزيد على 20 جندياً من الجهة المقابلة وجلهم يحمل أسلحة رشاشة وأمرونا بالتسليم وتلكّأت ورفقائي بالاستجابة لأنه لم يصلني أيّ جواب من الصدر. وكنت قبل هذه المرحلة قد أرسلت للصدر استفهم منه عما نفعل؟ وبماذا يأمرنا؟ كانت الرسالة من شخص إلى آخر حيث كان الصدر بعيداً عنا وجاء الجواب تصرفوا حسب الموقف فرفض الرفقاء الاستسلام إلا إذا فعلت أنا لأنني المسؤول عنهم، فاشتدّ إطلاق الرصاص فوق رؤوسنا، رميت بندقيتي على الأرض ووقفت ووقف خلفي كل ّالموجودين… كان بيننا ما يزيد عن 12 رفيقاً لنا من المتواجدين في مجموعتنا كلها لم يكونوا مسلحين حتى ولا مدرّبين ولا متمرّنين على فنون القتال ولا أساليب المواجهة ولا الاحتراز من الأخطار، هذا النقص الكبير قابله إيمان صلب وثبات وشجاعة في الأداء شاركوا في المعركة بما يعرفونه ولم يتراجعوا ولم يندموا حتى بعد صدور الأحكام لم يتغيّر إيمانهم، وفي التحقيق لم يكن عدم تسليحهم أو جهلهم بالأمور العسكرية حجة لهم ليتبرأوا من المسؤولية ويتهرّبوا من حملها أو التهرّب من الانتماء للحزب تحت أيّ عذر من الأعذار.
أقف مستعرضاً تلك اللحظات متأمّلاً مواقف الرفقاء ولا أتمالك نفسي من الاعجاب والسؤال أنطون سعاده ماذا فعلت؟
1 ـ رفقاء يؤسرون وهم في ساحة معركة ليس معهم سلاح يحالون للمحاكمة فيقفون بصلابة وشجاعة، لم ينكروا الانتماء لم يتذرّعوا بأية حجة لإنقاذ أنفسهم، مثل القول نحن لا علاقة لنا، نحن لا سلاح معنا، لم يتهرّبوا كانوا أبطالاً، كما أرادهم حزبهم وعقيدتهم وزعيمهم…
2 ـ الأمر الثاني: مئات الجنود يضربوننا في ساحة مكشوفة وقائد الحملة يصفع الرفيق نائل نديم الأمين لاحقاً وهو مكبّل اليدين خلف ظهره فينتفض ويصرخ بالضابظ اضرب يا جبان اضرب…
3 ـ الأمر الثالث: أسعد جواد قومي اجتماعي يأكل من زنده ومدخوله اليومي يحمل على ظهره حقيبة ملأى بالقنابل لا يرميها ولا يتركها وهو في ساحة المعركة، اية رصاصة او شظية تفجرها وتقضي عليه، بقي محتفظاً بها حتى تلقى أمراً بالتخلي عنها.. وكان في الطاحونة يؤدّي دوره في الحراسة بكلّ دقة وحسن أداء.. كما بقية الرفقاء وهو لا يحمل سلاحاً.
رصاص ينهمر والكلّ معرّض للقتل ويرفضون الاستسلام إلا إذا جاءهم الأمر الحزبي من المسؤول عنهم… وهذا ما حصل!
اية انضباطية هذه؟ ايّ إيمان هذا الذي يحمله بقناعة أبناء هذه القضية؟ ايّ تكوين إنساني قومي جعل أبناء هذه القضية مميّزون عن الآخرين بسخاء العطاء بخلود البقاء على قضيتهم أمناء.. هؤلاء هم من قال فيهم سعاده ما أشدّ اعتزازي بكم ونقول نحن: «سعاده ماذا فعلت».