في غابة المسؤولين الحكوميين الفاسدين.. مَن يحكم لبنان؟

لور أبي خليل

لقد كان حكمُ لبنان دائماً عملية مربحة، لكن لم يكن أبداً عملية سهلة، بوجود دولة عدوة قويّة على حدوده مدعومة من المجتمع الدولي بأسره منذ العام 1948. لذا كان الفساد جزءاً من التطورات السياسية كافة وكان داعماً للعائلات السياسية والنخب السياسية في مراحلها كافة. فتحوّلت ظاهرة الفساد نظاماً من التبادلات بين شبكة سياسية – بيروقراطية تشمل كبار مسؤولي الدولة: الرؤساء وعائلاتهم وحواشيهم وشرائح من النخب البيروقراطية. وكانت هذه الشبكات ترتبط جزئياً بالحوافز الفاسدة وبالولاءات العائلية والمناطقية والمذهبية. وقد سهّل المجتمع المدني الضعيف والمواقف التقليدية اتجاه القوة والسلطة لاستمرار ظاهرة الفساد. ومنذ اتفاق الطائف تكثّفت المنافسة السياسية وأظهرت الأحزاب السياسية الطائفية والمجتمع المدني ضعفاً مستمراً. فالفساد بعد الطائف أخذ منحى جديداً انتقالياً من فساد الأوليغاركات والعائلات الفاسدة إلى فساد المسؤولين الحكوميين.

وهنا يُطرح السؤال التالي: ما هي الخصائص التي تضع لبنان في خانة متلازمات فساد المسؤولين الحكوميين؟

استشرى الفساد في لبنان على شكل استغلال أحادي الجانب من السلطة السياسية، وأعني بذلك إن سرقة المسؤولين للأراضي والأموال العامة، ووجود شركات تمتلكها شخصيات سياسية أو برامج لتهريب او التهرّب الضريبي التي يضعها البيروقراطيون ويستفيد منها رجال أعمال تضع لبنان في خانة فساد المسؤولين الحكوميين، لأنه ما من شيء يمنع الشخصيات السياسية من سلب المجتمع والاقتصاد في آن واحد. إنّ أسوأ أنواع الفساد هي التي حصلت في لبنان، إذ إنّ سرقة الأراضي من المواطنين والأراضي العامة من قبل بعض الوزراء ورجال الأعمال والزعماء كانت أمراً فاضحاً، خصوصاً أنّ هؤلاء استولوا على الأراضي غير آبهين بالسلطة القضائية. أما المتضرّرون فلم تكن لهم اية جهة او سلطة يلجأون اليها للدفاع عن مصالحهم. ولهذا فإنّ لفساد المسؤولين الحكوميين، معنى مزدوجاً، حيث يثرى المسؤولون والسياسيون، كما يشاؤون، منتقلين في احتكاراتهم للقطاع العام وبتحويلهم الهيئات الحكومية كاملة إلى مؤسسات ربحية، حيث يتجه رجال الأعمال الطموحون الذين يتمتعون بالحماية الرسمية إلى بناء امبراطوريات، ويصبح مصدر السلطة ليس الدولة بل يصبح مصدرها المسؤولين أنفسهم الذين يستعملون نفوذهم للحصول على الثروة. وعندئذ تكون المناصب العليا مفيدة لبناء احتكارات مختلفة الأنواع يتمّ استغلالها من دون قيود تذكر. وهنا يمكن للاحتكارات أن تسمح للمسؤولين الحكوميين بالسيطرة على مجالات رئيسية في الاقتصاد وتكون النتائج روابط بين السلطة والثروة. لذا فالمسؤولون الحكوميون في لبنان لا يحتاجون لبناء شبكات على شكل كارتيلات، لأنّ المعارضة ضعيفة وعملاءهم يصبحون متخصّصين في استغلال المؤسسات العامة، حسبما يرتأون. كما تتمثل القوة الدافعة لفساد المسؤولين الحكوميين في لبنان في إساءة استعمال السلطة السياسية وبالتالي السلطة الرسمية. لذا فإنّ معارضة الفساد قد تكون عملية خطرة. وغالباً ما يكون هذا النوع من الفساد واسع النطاق ومنفلتاً من كلّ مساءلة وعقاب، يعبر الحدود الدولية، كما يعبر الحدود بين الدولة والاقتصاد.

إنّ الفساد في لبنان نما في أحضان أنساق طائفية تعاني من الضعف المزمن، إلا أنّ الفرص الاقتصادية كانت كبيرة فاستفاد منها عدد قليل من الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، منهم أصحاب السلطة السياسية، مما سمح للانتخابات أن تصاب بالتزوير وشراء الأصوات، والذي ساعد أيضاً على هذا فساد الجهاز القضائي الذي كان يتعرّض للترهيب وتحطيم المعنويات.

كان الفساد في لبنان يحدث في المعاملات اليومية كافة وسُمّي بالفساد الصغير، وكانت الشركات الخاصة مشتركة في هذا النوع من الفساد من خلال الرشوة والابتزاز على المستويات العليا والدنيا. والأخطر من ذلك أنه إذا أُجري أيّ تحقيق لا يمكن معاقبة المرتكبين. وهنا تخطى الفاعل حدوده في التعاطي والسيطرة ولم يعُد بإمكان النسق القضائي أن يواجه هذا النوع من الفساد الذي يطيح بالمجتمع والدولة والقيم في المجالات جميعها. وتجدر الإشارة إلى أنّ الضغوط الدولية من أجل الاصلاح أدّيا الى المزيد من الفساد. لأنّ الفاعل هنا هو المسؤول الحكومي الذي يتحكّم بالأنساق كافة على جميع المستويات. فنستطيع ان نستنتج أنّ الفساد في لبنان يأتي على شكل استغلال أحادي الجانب من قبل السلطة السياسية، حيث إنّ المؤسسات اللبنانية ضعيفة أيّ هيكلية النسق هزيلة، والعمليات السياسية غير ديمقراطية والمجتمع المدني في لبنان ضعيفاً أو غير موجود وفرص الثراء موجودة، لأنّ برامج التهرّب الضريبي يضعها البيروقراطيون ويستفيد منها رجال الأعمال الذين يملكون حماية من الفعاليات السياسية، وعندها يندمج الفاعل الاقتصادي والسياسي والقضائي، ففي لبنان نرى السلطة السياسية مشخصنة وغالباً ما تستعمل من دون رادع أو وازع، والمسؤولون الحكوميون هم أقطاب اقتصاديون يحتاجون الى الدعم الرسمي، يثرون من خلال الفساد محوّلين الهيئات الحكومية مؤسسات ربحية. وحالما يتمّ عقد الروابط السياسية فإن هؤلاء لن يواجهوا عوائق تذكر من منافسيهم فالمناصب في لبنان أصبحت مفيدة لبناء احتكارات سمحت للمسؤولين الحكوميين بالسيطرة التامة على الاقتصاد. وهنا تكون المناصب والمؤسسات مجرد أدوات نافعة في السعي لتحقيق الثروة، ويأخذ النسق شكلاً لا دوراً فاعلاً له يعمل لمصلحة الفاعل الذي يكون أيضاً محدّداً بالمسؤول الحكومي. وهنا نستطيع القول إنّ الاحتكار السياسي هو الطريق للحصول على الثروة سواء من الاقتصاد المحلي او من المساعدات والقروض والاستثمارات التي تتدفق من الخارج. ويكون نوع الفساد واضحاً إلا وهو فساد «المسؤولين الحكوميين».

دكتورة في العلوم السياسية والإدارية

باحثة وخبيرة في شؤون التنمية الاجتماعية ومكافحة الفساد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى