جنون رؤساء أميركا وعقلانية الرؤساء العرب
د. رائد المصري
بهدوء، وقبل أن نقْلق منام الفخامة والجلالة والسمو والسيادة وندخل في مناظرات وتقييمات لعقول وأدمغة زعماء دول الغرب وصحّة تفكيرهم وتنظيم الموشّحات والترانيم السمفونية التي تقيم التهكّم على المنتج السياسي الغربي ونخبه الموصوفة من قبل العرب بالعتْهِ والجنون، والمتّكلة بعون ربّهم إلى المؤسسات الدستورية والقانونية كي تقيم الحدّ وتنزع عن الرئيس ترامب كرسيه مثلاً، وإخراجه من البيت الأبيض لكون الحلم العربي طويلاً وقد استغرق في نومه وتحوّل كوابيس مزعجة، فصاروا أكثر عرضة للهلوسات ولتأثير الكوابيس التي تسقط عليهم من القدس وفلسطين وصولاً الى كلّ البلدان التي يعتصرها المدّ التكفيري ويدمّرها هذا الجنون الأميركي حليف الحالمين…
«نار وغضب»، كتاب فاقت مبيعاته كلّ توقعات العالم لمئات آلاف النسخ ونفدت، يحكي فيه صاحبه عن شخصية رئيس البيت الأبيض ويريد التصويب على عدم أهليته لهذا المنصب، وكفّ يده عن الرئاسة ومشى معه أغلب العرب إيماناً منهم بحكم المؤسسات الدستورية والقانون… فنشرح:
ليس الكتاب سوى مجرّد ثرثرات لرجل كان مقرّباً من الحاكمين في البيت الأبيض ويعرف الكثير والتفاصيل الدقيقة والتفاعل الذي كان قائماً بين الأجهزة الإدارية والرئيس ترامب، لكنه لم يقدّم في فحوى الكتاب أيّ معلومة أو دليل يلزم الحجّة للقانون الأميركي بوجوب الحجْر على الرئيس أو تعديل المادة 25 من الدستور الأميركي. وقد تحدّث عن صفقات سياسية في الشرق الأوسط وإزالة العقبات أمام تولي محمد بن سلمان السلطة، وبأنّ قدمه صارت في رأس هرم السلطة في السعودية، فما الجديد الذي قدّمه صاحب الكتاب مايكل وولف في ذلك لا سيّما أنّ ترامب كان يصرّح للصحافة وعلى الملأ بمخططاته وبرنامجه…
أما بالحديث عن أنّ ترامب لا يقرأ ولا يُصغي لأحد، فهو أمر عادي وأكثر، فمن هو السياسي أو الزعيم السياسي في بلاد العرب أو الغرب المليء بالثقافة والمتابعة الحثيثة لكلّ تفصيل وشاردة وواردة خاصة رئيس لدولة بحجم أميركا، يكفي أن يأتيه التلخيص عبر قصاصات من ورق صغيرة ليطلع عليها وكفى. أما الثقافة السياسية وحسن التعبير عند أغلب الزعماء العرب ونهمهم للكتب والمدوّنات وتشريعهم للحريات وإطلاق عمل ويد المؤسسات الدستورية والقانونية فحدّث ولا حرج وبما يفوق الغرب…
فحديث مايكل وولف في نار وغضب عن علاقة ترامب بروسيا وتدخّلات الأخيرة بانتخابات الرئاسة وبوصول ترامب لكرسي البيت الأبيض، فتبيّن من خلال ثرثراته أنّ محامية روسية ليس لها أيّ صفة رسمية من دولتها اجتمعت مع إبن ترامب في برجه بنيويورك، وقدّمت له مساعدات على اعتبار أنها موفدة روسية رسمية ولم تأتِ بجديد، فكانت كلها مجرّد تضخيم ونفخ إعلامي لحجم التدخل الروسي في انتخابات أميركا…
إخضاع الرئيس ترامب للفحص الطبي والنفسي هو أمر عادي في دولة كأميركا ودورياً، لكونه يمتلك مفتاح الزرّ النووي والأوامر المباشرة في ذلك، وهو إجراء روتيني ليس له أيّ تداعيات، لنسأل:
ماذا لو كانت نتائج الفحص الطبي والنفسي لترامب جيدة وإيجابية؟ ومتى لم نلحظ الجنون الأميركي في سياساته الاستعمارية؟ كم من دمار وتخريب افتعله الرؤساء الأميركيون قبل ترامب في العالم المدني المتحضّر؟ من إلقاء القنبلة الذرية على اليابان، إلى التدمير الممنهج في الحرب الكورية وحروب فييتنام وأميركا اللاتينية وأفغانستان والعراق وسورية وفلسطين… كلها حروب إبادة بإشراف ومعاونة بعض زعماء العرب… فهل هؤلاء الرؤساء الأميركيين الذين مرّوا وأمْعنوا في القتل والدمار هم أكثر عقلانية من ترامب الرئيس الحالي…؟
الواقع الذي يريد بعض العرب، كما مؤسسات الدولة الأميركية العميقة الهروب منه، هو مستوى التأزّم البنيوي الذي بات يحكم دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإنّ وصول ترامب الى البيت الأبيض مع كلّ ما يحمله من صفات شخصية وقرارات على المستوى الداخلي أو في السياسة الخارجية تبدو ارتجالية، وفيها الكثير من المغامرات، ما هي إلاّ صورة تعكس هذا التأزّم الخطير، فتمّت محاصرة الرئيس ترامب بتكتلات واتهامات داخلية كانت جاهزة ومبيّتة من قبل كارتلات المال والإعلام والسلاح ونخب المؤسسة السياسية القديمة، لشلّ يده وإعاقة عمله، ليجد بعدها أنّ الهروب إلى قرارات خارجية فيها مغامرات خطرة هي الأفضل، فكان قراره بشأن القدس وهو قرار خطير وغير مسؤول يعكس حجم التهوّر، وكذلك قراراته وتصعيده بوجه كوريا الشمالية وبعدها تراجعه، وتصعيده بوجه إيران والاتفاق النووي، وهي سياسات لا تعكس إلاّ الواقع المأزوم للدور الأميركي المفقود عالمياً، وكان خير مجسّدٍ له هو ترامب…
«نار وغضب» لم يعطِ لمؤلفه سوى الكثير من الأموال نتيجة البيع المفرط ولن ينفع العرب الحالمين إلاّ استكمالاً لثرثراتهم وهلوساتهم وكوابيسهم في نومهم الذي طال عن قضاياهم وقضايا شعوبهم ومنها فلسطين، ولن تنفعهم المادة 25 من الدستور الأميركي للتعديل الرئاسي، ولن ينفعهم تنفيذ القانون نتيجة انحراف ترامب عن المسار المرسوم في المؤسسات الأميركية أو ارتكابه جرم الخيانة العظمى بحق دولته وشعبه، فكان شعاره أميركا أولاً، بل علينا استجرار قوانين أميركا التأديبية إلى بلاد العرب ووضعهم أمام المساءلة القضائية والقانونية عما ارتكبته أياديهم السوداء بحقّ شعوبهم من قتل وتنكيل وسجن واستبداد، لنجدهم اليوم منظّرين لساسة أميركا والغرب عن الحرية والقانون والعدالة، إنها مأساة العصر… والعرب.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية