إشكالية الحبّ لدى الفلاسفة الشعراء!
عمر الدريسي
لا يمكن أن يتفقّ اثنان على ألّا يختلفا؟ هذا في غالبية المواضيع التي يعيشها الإنسان وتحيط به ويحيط بها. وأكثر هذه المواضيع تعقيداً، موضوع الحبّ. اعتباراً أنه موضوع تشاركيّ تقاسميّ تبادليّ عاطفيّ إرادي لاإراديّ عقلانيّ لاعقلاني، جديّ وتافه، كيماويّ وفيزيائي، عصبيّ وعُصابيّ، صوابيّ وجنونيّ. الموضوع يجمع المتناقضات الجسمية والروحية والحسّية وغير الحسية، المرئية وغير المرئية، المادية وغير المادية. معنوية معبّر عنها ومعنوية باطنية. له لغة ملفوظة يختلف الجميع على فهم رمزيتها بالمعنى نفسه ويتّفق الكل على بذل المجهود لفهمها، ولغة غير منطوقة، أكثر تعقيداً وأعمق اجتراحاً، يختلف الخلان في مبلغ معانيها. إنها سيرورة من الشوائك، التي لا بدّ أن تجد من مُستحيلها المُراد المتوخى، ألا وهو الحبّ، ذاك الحبّ، الضامن ما يعتري الذات حين تضعف، وتحتاج إلى من يدثرها بعطف، ويحضنها بحنوّ لتحقّق الكمال الوجودي. فكيف يتناول الشعراء الفلاسفة هذه الشائكات في موضوع الحبّ؟ وكيف تناوله عقل الفلاسفة؟
في قاموس المعاني، فعل، «أحبَّ» الشيءَ أو أحبّ الشخصَ: أحبّه ، ودّه ومال إليه، عكس كرهه. وشغف به أو شغف بحبّه: أحبّه وأولع به. يقول الشاعر كثير عزّة:
إِن المُحِبَّ إِذا أحبَّ حبيَبه
تلقاه يبذلُ فيه ما لا يبذلُ
إِن المحبَّ إِذا أحبَّ حَبيبهُ
صدقَ الصفاءَ وأنجزَ الموعدَ.
وجاء في معجم الفلاسفة، أنّ الحبّ، عاطفة بشكل عام، تجذب شخصاً من جنس، إلى شخص مماثل من الجنس الآخر، برغبة، مصدرها الغريزة الجنسيّة. والعاطفة، بشكل خاص، يؤدّي تنشيطها إلى نوع من أنواع اللذّة، ماديّة كانت أو معنويّة.
وكلمة حبّ في اللغات الأجنبية، تكاد معانيها، في الفرنسيّة: Amour، وفي الإنكليزيّة: Love، وفي الإسبانية: Amor، وفي الألمانية: Liebe، تتقارب، إن لم نقل تتطابق، على غير اللغة العربية والتي تحمل فيه هذه الكلمة السحرية والروحية والباطنية والأخلاقية والطبيعية، معاني اللغات الغربية نفسها، إلا أنها تتداخل مع معاني مرادفات أخرى لها، تراعي الحالة النفسية والوجدانية والتمثلات والتفاعلات الزمكانية، بحسب البعد أو الوصل، بحسب اللوعة أو الترك، بحسب الشوق أو الفراق، بحسب الرغبة أو الإهمال، بحسب الصبوة أو الشغف، بحسب الهوى أو الجوى، بحسب الوَصب أو الوُد، وبحسب الخلوة أو الخُلّة أو الهيام.
عن أقوى علاقة حبّ، والتي جمعت في طرفيها، ما بين المتناقضات، كل من الحسناء حنة آرندت، طالبة في مقتبل العمر 18 سنة ، بطموح كبير لدراسة الفلسفة والتخصص بالفكر، والأستاذ مارتن هايدغر المتزوج والأب لأطفال، الغارق في الميتافزيقا وأستاذ الفلسفة، تقول أنطونيا غرونينبيرغ، إنه الحبّ في كل نطاق تنوّعاته، الإيروتيك والاندهاش، والوفاء والخيانة، والشغف والروتين، والتصالح، والنسيان والتذكر وحب العالم، ربما انطبق عليهما قول الشاعر البحثري:
قد تخلَلتَ مسلك الروح مِنّي
وبِذا سُمّي الخليّ الخليلا.
وإذا ما نطقتُ كنتَ صحيحاً
وإذا ما سكتُّ كنت عليلا.
يقول هايدغر في إحدى رسائله: العزيزة حنة، لم يحدث لي مثل هذا الشيء أبداً. العزيزة حنة، لماذا يكون الحبّ فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى ويكون ثقلاً حلواً بالنسبة إلى المعني بالأمر؟ لأننا نتحول إلى ما نحبه، لكننا نبقى نحن أنفسنا. ذلك أننا نريد أن نشكر من نحب، لكن لا نجد أي شيء كافٍ لهذا الشكر. لا يمكننا الشكر إلا بذواتنا. فالحب يغير الشكر إلى الإخلاص للذات وإلى الاتقاد غير المشروط في الآخرين. وبهذا ينمي الحب باستمرار سره الخاص.
أيّ سرّ هذا للحبّ الذي يعبّر عنه عالم الميتافيزاقا والفيلسوف؟ هل هو السرّ نفسه للحبّ الذي يعبّر عنه الشاعر والمتصوّف العاشق أيضاً؟
لنكتفِ بما ذكرناه عن هايدغر ولو أنه هو أيضاً، عدا رسائل الحب، فقد كتب شعراً لحنة آرندت عندما سافرت إلى فرنسا وإلى الولايات المتحدة، غير أنّ شعره لا يصل إلى مستوى أفكاره الفلسفية.
صورة الحبّ تبدو منشطرة، تحديداً إلى صنفين، ولا تثبت على معنى واحد. أفلاطون اعتقد أنّ الحب يمثل العودة إلى الخلود، وهو بهذا ينزع به منزعاً أصيلاً وروحياً خالداً. فيما يعتبر شوبنهاور، أنّ الحبّ نوع من الدهاء الذي تمارسه الغريزة الجنسية، أو بمعنى آخر، شوبنهاور هنا، يؤكد مقولة غباء الإنسان إزاء الطبيعة، بحيث أن الطبيعة تحقّق استمرارها في الحفاظ على انتاج النوع البشري عن طريق ضعف الإنسان أمام غريزته الجنسية، وبهذا يؤكد شوبنهاور مقولة، أنه ما من تآلف بين الفلاسفة والحب! أي أن الفلاسفة لا تبتزهم العواطف، أو لا تغريهم، بقدر ما يجنحون للعقل وتحكيم التعقل.
أو بمعنى آخر، هل يبقى موضوع الحبّ عصيّاً على مختبر العقل عند الفلاسفة، وهذا ما يؤكد عليه، واقع الحال إلى حدّ ما، منذ سقراط، وما كان يعانيه مع زوجته التي لم تفهمه وكانت تكدر عليه، وأرسطو أيضاً وخلافه مع زوجته الأولى، التي تركها، ثم عاد إليها وأوصى عند موته بأن تدفن إلى جواره وليس الزوجة الثانية.
ومن علماء ومفكري الغرب الإسلامي، أتى ما ألفه العرب في موضوع الحب، كتاب طوق الحمامة، لابن حزم الأندلسي، تناول فيه، دراسة الحب ومظاهره وأسبابه، على غرار ما كتبه الشاعر الإغريقي أوفيديوس Ovidius 350 ، ومن أهمها، الغزليات Amores، رسائل البطلات Heroiede، فن الحب Ars Amatoria و الشفاء من الحب Romedia Amores.
إلى أن جاء ابن عربي، مؤلف الفتوحات المكية، تلميذ الفيلسوف ابن رشد، والشاهد له بالنبوغ، والذي يشرح في مؤلفه معنى الحب، ولا يتصور أحداً، في الوقت نفسه، قادراً على فعل ذلك، بحيث يتصور أن المعرفة لا يمكن ان يعرفها الا من قامت به ومن كانت صفته وهنا يمكن أن نحس أنه ينحو إلى مقولة ارسطو لكن ليس بالنطق وحده، ولكن بالحب، أي أن الإنسان حيوان محبّ.
والعالم اللغوي والشاعر والموسيقي، الفيلسوف فريديريك نيتشه، ورغم مساعدته الدراسية لملينا وحبّه القوي لها، إلا أنها تخلّت عنه، وتعلّقت بصديقه الموسيقي والمسرحي، ومن بعد، عشقت الشاعر الروسي واستقرت في موسكو، ولم يستطع نسيانها، وبقي يعترف بأنّ أحلى الأوقات كانت له معها، وربما لذلك، كان فاشلاً في تجارب حبّ من بعدها، أهو صدق مشاعر الشاعر نيتشه وغياب تعقل عقل الفيلسوف لديه، في ما يخصّ عواطفه وذاته؟
كل ذلك وغيره، من الحبّ والأنانية والسيطرة والتملك والرغبة الجنسية لكل من الرجل والمرأة اللامتساوية، تحدّث عليه نيتشه بالتفصيل، في كتابه العلم المرح Die fr hliche Wissenschaft, 1882 ، يقول في الحكمة 363: المرأة تهب نفسها، الرجل، يطلب المزيد ـ لا أفهم كيف للمرء أن يستوعب هذه المقاومة الطبيعية، بوسائل اجتماعية ضيقة أو بِنِيّة حسنة في العالم، ليكون مجرد محبوب، إن لم يكن ذلك تذكيراً مستمراً لأنفسنا بأننا قُساة، رهيبون، غامضون، وهذه العداوة غير أخلاقية. بالنسبة للحبّ، الفكرة فيه بمجملها على أنه عظيم وكامل، طبيعية، والوجود الطبيعي، في كل شيء أبدي لاأخلاقيّ. من الصعب أن تقرأ نيتشه ولا تسأل عن تعقد الحب أكثر، والعلاقات الرومنسية أكثر وأكثر!
ولا يمكن ألا نأتي على ذكر علاقة الحب الجدلية، الحُب الذي يجعل من وجودنا سبباً مبرّراً، ما بين الوجودي، صاحب مؤلف الوجود والعدم، جون بول سارتر، وكاتب مقدّمة ديوان «أزهار الشر»، للشاعر الثوري والمجدد، بودلير، وطالبته ورفيقته المغامرة الفكرية والعاطفية سيمون دوبوفوار، صاحبة كتاب «الجنس الآخر»، وصاحبة المقولة المشهورة: لا تولد المرأة امرأة، بل تصبح كذلك، والقائلة: المحافظة على الرجل وظيفة، والتي وهي مع رفيقها في باريس، تقول له: أخونك بمعرفتك، وتكتب الى عشيقها الثاني، مؤلف رواية «صحراء النيون»، في شيكاغو، الكاتب الأميركي نيلسون أليغرين: سوف لن ننفصل عن بعضنا. إنني زوجتك دائماً، بمعنى أن نظرة الفلاسفة إلى الحب، تنطبق عليها مقولة: التفكير بالمنطق، لا يعني التصرف بمنطق.. لكن كيف سيكون عليه التفكير في الحب لدى الشعراء، إن كان الفيلسوف باديو، قد خلص إلى القول: لو لديك رغبة جنسية، أشبعها. إنك لا تحتاج أن تقع أسير فكرة، إنك يجب أن تحبّ شخصاً ما، انسَ كُل هذا وأشبع رغبتك فقط؟
هل الحبّ هو الأمر الوحيد الذي استعصى على عقل الفلاسفة، أم أن عقولهم، قد أدارت ضهرها إلى المناطق الكثيفة من أوتار الروح وسويداء النفس البشرية، وتركوها مجبرين لا مُخيرين، حيث لم ينتبهوا كما دعاهم بشلار: كم سيتعلم الفلاسفة لو وافقوا على قراءة الشعراء! وها هو عالم النفس فرويد يقول إن الشعراء والروائيين هم أعزّ حلفائنا وينبغي أن نقدّر شهادتهم أحسن تقدير، لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض، لم تتمكن بعد حكمتنا المدرسية من الحلم بها، فهم في معرفة النفس شيوخنا، نحن الناس العاديون، لأنهم يرّتوون من منابع لم يتمكن العلم بعد من بلوغها.
يقول جلال الدين الرومي: كلّ الأشياء تصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أيّ تفسيرات. وهذا، على عكس ابن عربي، الذي فسّر الحبّ على أنه إرادة ومُريد. رُبما سيبقى الحُبّ، الأمر الأهمّ والوحيد، من بين أمور أخرى، الذي لا يمكن الاتفاق عليه!