«بيت بيوت» و«بين الحروب»… وثائقيّان عن اللجوء للمخرجة يارا بوريللو
رنا صادق
هو اللجوء بأشكاله كافة، بمعاناته ومآسيه، من العراق إلى سورية ولبنان وفلسطين. المعاناة واحدة، العذاب واحد. إنّه اللجوء الذي لا يعرف الرحمة.
هي فلسطين التي وحّدت قوّتنا، واستقت عزيمتنا، هي التي حرّرت نفوسنا من الظلم، وتلك دمشق أمّ التراث والحضارة والفنّ والجمال وحاضنة التاريخ. وذاك لبنان جناح المحبّة والمصير، لبنان الذي يحكي لفلسطين وسورية، بدماء شجعانه وشهدائه من نسور الزوبعة إلى كل مقاوِم.
وعليه، عُرض مساء الثلاثاء في «دار نمر»، فيلمان وثائقيان للمخرجة الشابة يارا بوريللو. الأوّل بعنوان «بيت بيوت» والثاني «بين الحروب». يارا الشابّة الطموحة، قرّرت أن تحكي عن المعاناة المتأتّية من اللجوء، عن الوجع، عن تلك البسمة الكاذبة التي نجترحها ممثّلين على أنفسنا، حينما نكون في… خيمة!
تبقى بوريللو وفيّة لفلسطين وسورية، لذا، قدّمت هذين الفليمين ضمن كادر إنساني واقعي ومتأزّم.
«بيت بيوت» أو «Lego house»
يحكي قصة «معمرجي» عراقيّ لجأ إلى سورية بعد اندلاع الحرب على العراق. هناك، في سورية أسّس منزل أحلامه وأحلام أولاده. طوال الفيلم يخبر الفنان قصته من حرب العراق إلى توجهه نحو الشام ثم لبنان، وفي كل محطّة، صمّم وعزم على تحقيق حلمه في بناء بيت.
بيت الأحلام كما يسمّيه، كان بدايةً يبنيه مع أصدقائه من الرمل وأغصان الشجر حتى يكتمل. هذا البيت هو ليس بيتاً حقيقياً، إنما بيت الأحلام. لكن هناك كانت أولى تجربة لسلام في بناء بيت.
يقول سلام في مشهد له حين اضطر وعائلته إلى مغادرة العراق: «تركنا العراق مجبرين، وأنا حزين أن أقول هذه الكلمة، لأن العراق أخذته وياي… حلمي، وحبي وكل عمري أنا قضيته وفنيته من أجل هذه الكلمة». هنا برز تعلّق الفنان بأرضه التي اضطر أن يسحبها معه ويغادرها.
في الشام، لم يشعر يوماً أن يمسها مكروه، لأن هذه المدينة هادئة مستقرة، شعبها عظيم وحضارتها عظيمة. في الشام، اشترى منزلاً وأسّسه وعمل عليه. ثمّ اندلعت الحرب على سورية، وهدمت كل حجر على حجر، وهدمت معها منزل سلام، حتى فقد كل ما يملك. لذا انتقل إلى بيروت مع عائلته، تاركاً العراق وسورية في قلبه.
هذا الفنان الخمسينيّ لم يتوان يوماً عن الكلام عن بلده الأمّ، كان وما يزال يطمح إلى العودة والعيش في حلمه الأبدي.
في مشهد رمزيّ تعبيريّ، للبيت الذي دارت أحداث الفيلم حوله خلال بنائه، تسلّط المخرجة الشابّة الضوء على البيت خلال الحرب، ما بين أصوات المدافع والرشاشات، وأصوات «الله وأكبر» التي للأسف تشي بالإرهاب، وصراخ النساء والأطفال أثناء القصف. المدافع كانت تهدّم، تكسّر وتلحق الضرر في منزل سلام. في مشهد تماهى مع ما يفعله المقدح بـ«ماكيت» البيت.
وفي وسط هدوء، نرى المنزل المهدّم المحروق، ويأتي صوت الطفل يبكي، كان الطفل يبكي من جرّاء الحرب، ثم يأتي طفل آخر، يمسح الغبار عن المنزل، ويأتي بقطع الليغو ويحاول إعادة إعمار البيت، حتى يصبح جميلاً ملّوناً مفعماً بالحياة، ليبدأ الطفل الذي كان يبكي بالضحك واللعب.
هذا المزيج ما بين صوت بكاء الطفل من ثم ضحكته مع مشهد الطفل الذي يعمّر المنزل استطاعت من خلاله المخرجة أن تخرج من العدم والدمار الأمل، والأمل بالجيل القادم، ليكون «بيت بيوت» هو حلم كلّ بيت عراقيّ وسوريّ، كل مواطن تعرّض للظلم، كلّ مواطن يحنّ إلى تراب الوطن.
«بين الحروب»
الفيلم الوثائقيّ الثاني جاء تحت عنوان «بين الحروب»، ويحكي قصة الفلسطيني محمود رمضان الذي ولد في لبنان وعاش فيه، إلى أن انذلعت الحرب الأهلية، فغادر إلى سورية، ثمّ عاد إلى مخيّم عين الحلوة بعد اندلاع الحرب على سورية.
من خيمة إلى خيمة، يعيش رمضان وعائلته وأولاده الثلاثة، وسط معاناة القهر والفقر، البرد والمطر.
لفتنا في مشهد لرمضان، يشكو فيه معاناتهم حين يكون البرد قارساً، حيث يقول: «اعتدت النوم أيام المطر في الخيمة، أنا أعتبرها سمفونية»، في هذا الكلام المضحك المبكي، يتبين لنا أنّ خيمة المآسي لدى رمضان أحسن حالاً من الحرب.
كان في سورية، يعيش وسط طمأنينة، لا تفرقة ما بين الشعبين السوري وفلسطين، حقوقه تصله، لا يعاني فقراً أو ألماً. يحلم بالعودة إلى سورية كي يعيش تلك الحياة مجدداً، حالماً بالسلام.
يبيع الخضار، يعيش على ضفاف الحياة، يلاقي ما بين الصحة والسلام لعائلته، كمن يركض ولا يصل،ة لكنه يعيش على أمل أن يعود إلى سورية… وفلسطين. لأن الوطن هو ما يدوم ولا شيء سواه.
هكذا، تكون يارا بوريللو قد نجحت وتفوّقت في اختياراتها، المادة الواقعية، التي تهمّ الشعب اللبناني، وأيضاً السوري والفلسطيني والعراقي. هذه المادة التي وضعتها بوريللو في إطار الإنسانية جعلت عملها قادراً على المسّ بالظلم والحرب والدمار، لأنها من الجيل الجديد، الجيل القادر على أن يصل إلى العالم، يخبره، ويحذّره أن أوطاننا ليست للبيع. أوطاننا حقّ لنا ولأولادنا.
نتمنّى أن تعي المخرجة الشابة يارا بوريللو دائماً الطريق الصحيح الذي يرضي إنسانيتها وقوميتها، وعدم الانحياز وراء السلعة التجارية، لأن رضا المخرج عن ذاته يأتي من رضاه عن أفلامه التي تحكي رسائل الإنسانية.
كلّ التوفيق ليارا بوريللو، على أمل أن نرى أعمالها في العالم أجمع، وألا تقف الرسالة عند الحدود، بل تتوسّع إلى ما هو أبعد، وراء الأفق.