بين الشاعر والسياسي فاصل أساسيّ!

نسرين بلوط

أخطأ الفرزدق يوماً في إعراب بيت من أبياته، وقد قاله في هجاء عبد الله بن أبي اسحاق الزيادي الحضرمي، الذي كان بمثابة ساعد قويّ يصفق برجاحة عقل وتنظيم وترتيب للغة، وأعلم البصريين في علم النحو في اللغة العربية، التي كانت تتعرّضُ وقتذاك لموجات من اللحن وكان ممّا أُخذ على الفرزدق في زمنه. فقال في عبد الله ربما عن حنق وغضب:

ولَوْ كانَ عبْدُ اللهِ مَوْلَى هَجَوْتُهُ

ولَـِكنَّ عَبْـَد اللهِ مَوْلَى مَـَوالِيَا

والصحيح أن يقول مولى موالٍ.. ففتح على نفسه الباب من جديد ليُرشقَ بالنقد اللاذع.

ثم أخطأ ثانية عندما قال:

وَعَضُّ زَمانٍ يا ابنَ مَرْوَانَ لم يَدَع

مِنَ المَالِ إلاّ مُسحَتاً أوْ مُجَرَّفُ

وقد رفع مجرّفُ بدلاً من أن ينصبها.. عندما سأله ابن أبي اسحاق عن السبب، أجابه الفرزدق «على ما يسوؤك وينوؤك علينا أن نقول، وعليكم أن تتأوّلوا».

أما عن الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني، لما أنشد قصيدته المتجرّدة ، وكانت تمسّ ردح الوصف الجميل لزوجة الملك النعمان بن المنذر، قال في أحد أبياته:

زعم البوارحُ أن موعدنا غدا

و بذاك خبّرنا الغرابُ الأسودُ

فقامت جارية تهيّباً من إحراجه أمام القوم، بإنشاد القصيدة وشدّدت على كلمة الأسودُ بالضمّة ورتّلتها بشكلٍ لافت حتى انتبه الذبياني إلى خطئه فأصلحه على الفور بكسر الدال «الأسودِ».

وقد هوجم الأديب الكبير جبران خليل جبران الذي اتهمه بعض النقاد بالإجهاد المبالغ فيه في صياغة اللغة وتركيب الجمل بسبب ما اعتقدوه من فقر ثقافته اللغوية والشعرية، وقد نبّهه الأديب ميخائيل نعيمة على رفعه لـ: «الباسلُ الخطرُ» عندما قرأ على مسمعيه هذا البيت الشعري:

فسارقُ الزهر مذمومٌ لفعلته وسارقُ الحقلِ يُدعى الباسلُ الخطرُ

وأجابه جبران بأنه يعزم على تغييره إن توفّق لقافية تأتي بوهج للمعنى الأقوى.. ولكنه لم يفعل.. ثم تعرّض للنقد اللاذع عندما قال: «هل تحمّمتَ بعطرٍ وتنشفتَ بنور» لاستخدامه كلمة تحمّمت بدلاً من «استحممت». وقد كان هذا النقد المجحف حافزاً للأديب الكبير نعيمة للدفاع عن صديقه بشراسة، واصفاً هؤلاء النقاد بضفادع الأدب.

لكن، مهلاً، هل نستطيع أن ننكر إبداع الفرزدق وتفوّق الذبياني وروعة جبران خليل جبران وغيرهم ممن سجّلوا في سِفْر الأدب تاريخاً مشرّفاً تتغنّى به الأجيال وتتناقله؟ وهل نستطيع أن نتعرّض نقداً وسوءاً لهؤلاء الكتاب الكبار الذين دغدغوا أوصال حواسنا بكل ما يثري العقل ويروي الفكر المتعطش للمعرفة؟ وهل نستطيع أن نردم هياكل الفلسفة المتينة التي تأرجحت مع الأنواء والرياح والأمطار وبقيت صامدة عامرة بالغربلة لكلّ ما يُغني الحسّ ويمنح الأشكال الملوّنة للروح فتزوّدها بمادة النور لازورداً فضيّاً أبديّاً؟ إنّ الماء المترقرق على وجه ينابيع هؤلاء المبدعين لا ينضب، ولا يتلوّث بالنقد اللاذع الذي كاد يحبطهم لولا قوة عزيمتهم ومتانة أحلامهم العريضة.

فلماذا نقف عند بعض الاضطراب والقلق في أخطاء لم يرنوا إليها بل انبثقت كهفوة في كمّ اللاوعي المتدثر بثوب الفطرة؟ يحقّ لنا أن نلاحظ ولا يحق لنا أن نعاقب ونحاسب، لأنّ لكلّ إنسان سواء كان مبدعاً أو غير مبدع، هفوات عفوية وغير إرادية تقفز إلى السطح في توثب مضنٍ يشلّ إرادته ويُعمي بصيرته.

عندما نستمع هذه الأيام لخطابات معظم السياسيين، نجدها حافلة بالأخطاء النحوية واللغوية، مع أنّه من المتعارف عليه بأنّ لكلّ سياسيّ أكثر من مراقب لغوي لخطاباته، ومدقّق فيها، فكيف لا يلاحظ هؤلاء بأنه ينصب المبتدأ ويرفع المفعول به والعكس صحيح؟ وكيف يتمادى في أخطائه في الخطابات المتعاقبة التي تلي تلك الزلّة ولا يلقي بالاً إليها وكأنّ اللغة العربية أصبحت من أواخر الاهتمامات الفكرية عنده؟ أو لا يدري أن المساس بحرمة اللغة يشبه المساس بكرامة الوطن والتاريخ؟

وما الفرق بين شوكةٍ للنحو تغرس في كفّ مبدعٍ أخطأ أو سياسي؟ الفرق شاسع وكبير.. فالمبدع تأثّر بالتلحين الهذياني لأشعاره أو كتاباته، وصبّ جام اهتمامه على مناقشة الشواهد الشعرية واستنباط الأوزان الصرفية، أما السياسي فقد ركّز على تنظيم أفكاره السياسية فقط لتصويبها نحو الهدف المنشود، غير مبالٍ بآذانٍ مثقّفة تعي الفرق بين الرفع والنصب والجر.

إنّ وجود الضوابط اللغوية يجب أن تكون حتمية للسياسي، كما هي للكاتب، لأنّ أوجه النص المنطوق تتمسك بتلابيب اللغة التي ببريقها قد تُسبي العقول، كما القلوب، وتصحّح مسار الكثير من الأمور. والتحليل والتهذيب في اتباع مبادئ اللغة يجلو الضباب المكتنف أحجية خطاب من الخطابات التهليلية التي أصبحت متشعبة وكثيرة خاصة في أيام الانتخابات هذه.

المقياس الأساسي في لغتنا الذي نقيس عليه النظائر والضرائر هو العناية بها، دون تجاوز البنية النحوية والصرفية، أما الجوازات الشعرية فقد تجوز للشاعر في بعض الأحيان كما جازت للأدباء الكبار الآنف ذكرهم على أن يحاسبوا أنفسهم على زلّتهم اللامقصودة، ويجحظوا مخيلتهم على الإلمام بقواعد النحو كما الصور الشعرية، أما الهفوات الشائنة في الرفع والنصب والجر التي يرتكبها معظم السياسيين عند قراءتهم خطاباً، أو تعليقهم على حدث، فلا يجوز التغاضي عنها لأنّ النحو اللغوي لم يبرح مكانته التقويمية منذ الأزل، والتاريخ يحاسب، والشعب يحاسب، واللغة أيضاً تحاسب، فهي جزءٌ منّا، ونحنُ من أركانها، وهي لا تتوانى أن تصدع بذكر الخطأ المتكرّر لهم.. وكما قال الشاعر أحمد شوقي: «تعلموا العربية فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة». وما أحوجنا للمروءة في ظلّ الانتخابات اليوم.

بين الشاعر والسياسي أكوام جليد مبعثرة من الواقع والخيال، الحلم والسيطرة، الغفلة والتغافل، التحدي والتردي، واللغة قد لا تضيع في يد الأول ولو تعرّضت لهزة خفيفة، ولكنها قد تتهاوى على لسان الثاني لعدم إدراكه أهميتها، أو استهتاره بانحسار البعد اللغوي في صياغة كلماته.

و… بين الشاعر والسياسي… فاصلٌ أساسيّ!

شاعرة وروائية لبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى