سورية ستبقى الحجر الأساس…
د. رندة شاهين
بغضّ النظر عن طريقتنا في رصد الأمور وتحليلنا لها، ثمة إجماع كامل على أنّ العالم العربي حالياً يعيش أزمة غير مسبوقة في تاريخه، من حيث التراجع والانهيار والتخلف الحضاري ربما لا تصحّ مقارنتها بأية فترة تاريخية أخرى، إلا بفترة غزو المغول
كلّ دولة عربية بلا استثناء تقريباً لها مشاكلها الظاهرة تشمل أبعاداً سياسية ودينية وطائفية واجتماعية واقتصادية لكن تظلّ الأزمة السورية في الواجهة الآن.
فمع كلّ الأحداث الدموية التي تشهدها سورية، ومشاهد مئات الآلاف من الجثث والمجازر والضربات الكيماوية والإرهاب والتطرّف والنزاع الطائفي والقنابل والتعذيب، واللاجئين المُوزّعين في أقطار الأرض، والأطفال الأيتام وذوي الإعاقة تبدو الصورة قاتمة جداً رغم سوداويتها وكآبتها إلا أنها أفضل بداية درامية لطفرة وحضارة غير مسبوقة في هذا البلد، الذي مثّل لقرون طويلة مركزاً للحضارة وللثقافة…
وما أقوله ليس تنظيراً معجوناً بالآمال الزائفة أو المُجاملة، بل هي حقائق تسهل معرفتها ببساطة، من خلال قراءة سريعة للتاريخ
إنّ هذه الحرب ليست مشكلة خاصة بنا وحدنا، وإنما هناك دول كثيرة شهدت أحداثاً مأساوية، كما نشهدها كلّ يوم ومع هذا نهضت من جديد أقوى وأفضل…
سورية بلد ذو تاريخ عريق، ولديها الرغبة المحمومة في تدارك التاريخ وتجاوز أخطائه، والظهور بالكبرياء الوطني أمام العالم ككلّ بمظهر لكلّ جواد كبوة عابرة، يعود بعدها للسباق وستحاول بشكل مُجتمعي استعادة أمجاد تاريخها بشكل سريع مثل أية دولة عريقة بعد أن تتعرّض لأزمات عنيفة ليس أوّلها أو آخرها ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية…
ولدينا كلّ الأسباب التي تساعد على النهوض بسرعة حيث إنّ 50 من الشعب السوري على الأقلّ هم من فئة الشباب، وهؤلاء هم الفئة العُمرية الوحيدة الذين عندما ينظرون إلى مشاهد الأطلال والدخان والدمار، تمتلئ نفوسهم بالرغبة في البناء والإصلاح وإعادة الترتيب، بدلاً من الأسى ثم يبتسمون بفخر وهم يتطلعون إلى منجزاتهم التي أعادوا إعمارها بسواعدهم
ولا ننسى أنّ مساحة سورية كبيرة جزئياً، وأرضها مليئة بالموارد الطبيعية والجغرافية، وتعتبر أبرز بوابة عربية لأوروبا، حيث تقع في حدودها المُتاخمة مباشرة فضلاً عن تعداد سُكاني متوسّط لا يزيد عن 22 مليون نسمة. وهذا يعني أنّ أيّ تطوّر اقتصادي ولو ضئيل بعد انتهاء الحرب في سورية، سيكون حتماً محسوساً ومرئياً بشكل كبير وسريع على المستوى العام لتكافؤ نسب الموارد مع السكان…
ومع ملايين السوريين الذين غادروا البلاد، كلّ فرد منهم خاض تجربته الشخصية في الخارج، وذاق حُلوها ومرّها، مميزاتها وعيوبها إذا عاد نصف هذا العدد فرضاً إلى سورية بعد الحرب، وقام كلّ شخص بتطبيق فكرة أو خبرة إيجابية تعلّمها في الخارج أو عمل على استحضار أفكار جديدة رآها وعايشها في دول لم تتسنّ له زيارتها قبل الحرب…
فهذا يكفي لتسريع عجلة التنمية والتحضّر والتطوير بشكل سريع جداً، على المستوى الشعبي الجماهيري…
إنّ الإبداع الداخلي المحلي عنصر فعّال طبعاً، وبخاصة أننا في عصر الاتصالات، حيث يمكننا أن نستفيد من تجارب الآخرين، فأسطورة البشرية تتجسّد دائماً في مرحلة ما بعد الدمار تظهر دائماً عبقرية الإنسان والمُجتمعات في هذه اللحظة العصيبة المؤلمة في تاريخ كلّ فئات البشر
العالم كله حولنا، أصيب بالآلام والأوجاع والمجازر والدمار، ربما أكثر بكثير مما أصاب سوريتنا، والعالم كله بلا قدرات خاصة أو مواصفات سحرية تجاوز هذه المحنة، وحوّلها منحة…
ولكن مع كلّ هذه الأسباب التي تدعونا للتفاؤل وبأنّ سورية ستعود الحجر الأساس في المنطقة، كما كانت في كلّ مراحلها التاريخية وتقلّباتها العصرية…
لكننا نحتاج إلى إرادة شعبية قوية يحميها دستور يعمل على فصل الدين عن السياسة، وإلى مسؤولين وطنيين حقيقيين يريدون بناء وطن لكلّ السوريين…