ديمقراطية ترامب المزيّفة

أسامة العرب

جهدت الإمبرياليات خلال كلّ حركتها التاريخية، إلى ملاءمة شروط يحكمها بالمسار الذي تسلكه الدول المستعمرة والمنهوبة. كان هذا هو سلوك الإمبريالية الأوروبية، خلال القرون المنصرمة، وتحديداً منذ تشكلها الرأسمالي في القرن التاسع عشر.

وعندما ضعفت هذه الإمبرياليات، وسطع نجم الإمبريالية الأميركية التي نمت وقوي عودها، بُعيْد الحرب العالمية الثانية ودمار أوروبا، وانهماك الاتحاد السوفياتي بتجميع قواه لمواجهة حرب باردة خاضها ضدّ الأميركيين وصنيعتهم حلف الأطلسي، شنّت هذه الإمبربالية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، هجمات عسكرية واقتصادية في آن واحد. وقد ارتكزت في هجومها هذا، على ما أنتجه المجتمع الدولي بتأثير مباشر وهيمنة منها ومن منظمات دولية شرّعت لها هجمتها حين احتاجت إلى ذلك. وكانت منظمة الأمم المتحدة هي هذه الهيئة التي استندت إليها الولايات المتحدة في مساراتها للهيمنة والإخضاع.

كانت الولايات المتحدة التي طالما ادّعت أنها هي دعامة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، وفقاً لمنطلقات تأسيسها بعد خروجها من الحماية البريطانية، تستعمل تلك الهيئة الدولية التي تشكّلت في ظروف محدّدة، لتشريع ودعم ديكتاتورية العديد من الحكام في مساراتها الإلحاقية العدوانية. وعديدة هي المناسبات التي أظهرت فيها تدخلها وعدوانيتها، رغم قرارات صدرت عن تلك الهيئة بمعارضة هذا الأمر.

خلال خمسينيات القرن الماضي، تدخلت الولايات المتحدة مع دول أوروبية في قضايا عالمية فاجتاحت عسكرياً ومخابراتياَ عدداً من الدول الصغيرة في أميركا اللاتينية والوسطى، رغماً عن وجود حكومات لها عارضت ذلك، متجاوزة كذلك اعتراضات دولية كانت تبرز ضدّها في هذا الشأن. الأمثلة عديدة، بدءاً من حرب كوريا، فإيران ومصر مروراً بالتدخل في غواتيمالا في منتصف القرن الماضي في ما عُرف بدعم شركة الفواكه الاحتكارية لزراعة الموز وبعدها في جمهورية غرانادا الصغيرة إلخ…

حالياً، تهيّئ الولايات المتحدة، بعد أن عجزت عن إسقاط نظام رئيس جمهورية فنزويلا الراحل هوغو تشافيز وخليفته نيكولاس مادورو لهجوم عسكري مسلح بهدف إطاحته. علماً أنها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته ومطلع السبعينيات، أسهمت بإسقاط وإطاحة العديد من رؤساء الجمهوريات، عبر إعداد مخابراتها لانقلابات عسكرية تبدّل خلالها رؤساء الحكم في تلك الدول. وفيما عجزت في تشيلي بإسقاط نظام حكم الرئيس سلفادور الليندي المنتخب ديموقراطياً، عملت في العام 1973 على المجيء بالجنرال بينوشيه لإطاحته عسكرياً وقتله في مجزرة دموية قتل فيها الآلاف من أفراد الشعب التشيلي.

في العام 1965، نظّمت الولايات المتحدة كذلك في إندونيسيا، انقلاباً عسكرياً بقيادة الجنرال سوهارتو الذي أطاح الرئيس المنتخب أحمد سوكارنو وارتكب الانقلابيون مجزرة ضدّ القوى الديمقراطية واليسارية، قتل جراءها عشرات الألوف من الأندونيسيين. كذلك الأمر في الكونغو، فالمخابرات الأميركية هي التي حرّضت على إطاحة حكم باتريس لومومبا وقتله، عن طريق البلجيكيين الذين نفذوا تدخلاً سافراً أدّى إلى ذلك.

كلّ هذا كان يجري تحت سمع ومرأى الأمم المتحدة، حتى أنّ ممثلها في الكونغو آنئذ داغ همرشولد، قتل بحادث مدبّر لطائرته أثناء تنفيذ أميركا مناورتها التي انتهت بتغيير نظام لومومبا وقتله.

إنّ النظام العالمي الراهن منظومة رأسمالية معولمة تتركّز في الولايات المتحدة لكنها تتوسّع كدوائر نفوذ متعدّدة المستويات تنخرط جميعها في نظام إنتاج اقتصادي وتبادل واستهلاك عالمي غايته استمرار تعظيم العوائد لقلة اقتصادية مرفّهة على حساب الغالبية العظمى من سكان العالم.

هذا النظام – الذي يطلق عليه اصطلاحاً – الإمبراطورية الأميركية، يقوم أساساً على خضوع مختلف دول العالم لهيمنتها وعلى استمرارها بمنح عملة الإمبراطورية الدولار التي هي مجرد إصدار ورقي ليس إلا ولا غطاء ذهبي له وكلّ الثقة له من خلال التداول بهذه العملة والاقتراض به وتمويل صادرات العالم من الموارد الطبيعية الأساسية له. إنّ الولايات المتحدة – ولا سيما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية – لم تعد تتهاون مع أيّ نزوع للسيادة الفعلية حول العالم من أوروبا. لقد سيطرت، عملياً، عبر القوى اليمينية في تلك الدول، على مقدراتها وقراراتها.

أصبحت الأمم المتحدة أداة طيّعة لمواقف وقرارات الولايات المتحدة، وعبرها تمكّنت من سلب حقوق العديد من الدول، وأبرز هذه المواقف إهدار حق الشعب الفلسطيني بتجسيد القرارات الصادرة عن تلك المنظمة لصالحه.

حالياً، تحاول الولايات المتحدة إطاحة الحكم في فنزويلا بشتى الوسائل. وهي تتجه لاستعمال القوة العسكرية التي تلوّح بها كوسيلة أخيرة لهذا التوجه. حاولت المستحيل في عهد تشافيز لكنها فشلت. وقد غاب هذا الأخير في وقت دقيق وصعب، لكنه ترك تراثه لأحد رفاقه مادورو الذي يقاوم بشراسة المحاولات الأميركية لإسقاط نظامه الممانع لها. ويستعمل دونالد ترامب كلّ الأساليب لتحقيق هذا الأمر. إنّ الولايات المتحدة الأميركية التي خاضت حروبها وتدخلاتها في أميركا اللاتينية والوسطى باسم الديمقراطية، ومتى كان الاستعمار الغربي يجري من دون ذرائع الحرية والديمقراطية؟ تهيّئ الأرضية لعدوان على فنزويلا. ولا يهمّها الأمم المتحدة وموقفها من ذلك. فهي لها منطقها الخاص بها الذي تدعمه باستعمال القوة. وتهتدي بذلك، بإيديولوجيتها البراغماتية الوصولية، التي مارستها في كوبا وفشلت فيها فشلاً ذريعاً. إنها حالياً تمارس بمحاولاتها لإسقاط النظام الفنزويلي التجربة ذاتها وأكثر مغالاة وستفشل أيضاً.

إنّ أميركا اللاتينية ودولها بالنسبة للولايات المتحدة بوابة الهيمنة على العالم. وفي حساباتها تبقى تلك القارة مغايرة لحساباتها الشرق أوسطية وسورية تحديداً. هي في الأخيرة حاولت ومستمرة في محاولاتها لكنها اصطدمت بالعقبة الروسية التي لها حساباتها هي أيضاً في هذه المنطقة والتي أفشلت مخططها!

لقد ضربت الولايات المتحدة، ماضياً وحاضراً، بعرض الحائط الكثير من المقرّرات والبنود الدولية الصادرة عن تلك المنظمة الدولية الأعلى مكانة في العالم.

وحالياً، وعلى خلفية المبدأ الذي أعلنه جورج بوش الإبن، أعني مبدأ تغيير الأنظمة الحاكمة في دول أجنبية Regime- change Doktrin بكلّ السبل الناجحة، تبدو لنا عملية إسقاط حكم الرئيس الفنزويلي مادورو، وكأنها استعادة لعملية إسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية في إيران في مطلع خمسينيات القرن الماضي. وكان رئيس وزراء بريطانيا خلال أزمة حرب السويس في العام 1956، وبرضى أميركي ومشورته، قد أعدّ أيضاً عبر جهاز مخابراته الخارجية MI-6 قائمة بأسماء حكومات شرق أوسطية، حينذاك، من بينها سورية ومصر، ينبغي إسقاطها بآليات مشابهة، كما حصل مع مصدق، جرّاء تصرفها ضدّ مصالح الدول الغربية. صحيح أنّ الزمن تغيّر منذ ذلك الوقت لحدّ الآن، غير أنّ المسار الأميركي الراهن تجاه فنزويلا، يتجه وفقاً لتلك الرغبات والمصالح.

ولن تأبه أميركا من استباحتها مفاهيم الديمقراطية التي ابتدعتها كقوانين للبشرية والعالم. فمصلحتها أن تتجاوز تلك المفاهيم حين تحتاج إلى ذلك… غير أنّ الشعب الفنزويلي سينجح بردّ تلك التوجهات العدوانية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى