«الظاهرة الترامبية» مؤشر على آخر «هذا الزمان»!

د. وفيق إبراهيم

ينتقل الرئيس الأميركي دونالد ترامب من ورطة داخلية الى أخرى مفجراً أزمات دولية بالجملة، يكفي انسداد واحدة منها لوضع العالم في أتون حروب قاسية.

هذا الرجل اصبح نموذجاً لرؤساء دول بالجملة من مختلف زوايا الأرض، يقلدونه باندفاعاته المجنونة، وتراجعاته المذعورة، انما على قياساتهم وأحجام دولهم.

بصفتين ثابتتين: الدكتاتورية والخفة السياسية الداخلية والخارجية للدول. وهذا يتصل مباشرة بعدم الإلمام بالثقافة السياسية. فالرئيس المصري السيسي خرج من قيادة جيش بلاده حيث فنون الأمرة والطاعة المطلقة يمسك بها رجلٌ واحد الى مرحلة رئاسة دولة تحتاج الى إلمام عميق بالداخل والخارج، لإدارتها بالتعاون مع آلاف السياسيين والإداريين والدبلوماسيين والعسكريين، لكنه لا يفعل ذلك مكتفياً بتحريك شفتيه بجمل تثير ضحك المستمعين، فيظن أنهم مسرورون منه، فيما هم ساخرون من بساطته السياسية.

هذا واحد من عشرات القادة الذين يقلّدون ترامب كنموذج لهم قابل للاقتداء، متمنين ان يشابهوه في كل شيء.

هذه الظاهرة الترامبية، تجتاز حالياً اتهاماً عاصفاً، يقول فيها منافسوه الديموقراطيون الأميركيون إنه حاول في اتصال هاتفي ابتزاز الرئيس الاوكراني زيلينسكي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بذريعة أنه استخدم نفوذ والده جو بايدن لتوفير تسهيلات اقتصادية مع الشركات في اوكرانيا.

لكن طلبه لم يكن مباشراً بل جاء على شكل رجاء «ترامبي» ربطه بما تؤديه الولايات المتحدة من خدمات لأوكرانيا.

وهذه تورية واضحة يستعمل فيها ترامب موقف بلاده المتصادم مع روسيا في اوكرانيا. كما يذكره بشكل خفي بصفقات السلاح التي تنوي واشنطن إرسالها الى بلاده.

هذه آخر إبداعات ترامب، حتى الآن والتي أنتجت سيلاً من اتهامات، تمكّن الرئيس الأميركي من إجهاضها لسبيين: إمكاناته الرئاسية، وموقع شركاته الاقتصادية الاولى في مجال العقار في الولايات المتحدة حتى ان واحدة فقط من هذه الأزمات وهي استخدامه للمعلومات الروسية في سبيل فوزه بالانتخابات الرئاسية، كانت كافية لعزله، لكنه تجاوزها.

خارجياً، تتعامل الظاهرة الترامبية مع دول العالم وكأنها فروع صغيرة لشركات ترامب الاقتصادية، يرسل إليها التعليمات، وما عليها إلا التنفيذ، غير مفرق بين اصدقاء بلاده ومنافسيه لاغياً، ثلاثة قرون من تطور الأصول الدبلوماسية متسبباً بفضائح لبلدان خليجية يأمرها بالدفع لبلاده مقابل حمايتها. ويبتزها عند كل عقبة أو حادث طارئ حتى أصبحت سخرية العالم، فتكتم غضبها لأن لا بديل عندها عن الأميركي في انظمة حمايتها التاريخية.

كما عمّم أسلوب العقوبات الاقتصادية على اصدقاء بلاده الأوروبيين والأميركيين مدركاً روسيا والصين واليابان والهند وتركيا.

فاتسعت شبكة مقلّديه بين رؤساء البرازيل واوكرانيا وجونسون البريطاني وبن سلمان والسيسي وبن زايد وحفتر الليبي ومنافسه السراح ونتنياهو الإسرائيلي واردوغان العثماني وصولاً الى لبنان حيث يحاول سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع تقليده في الامرة والدكتاتورية حتى أن جنبلاط يعتبر القسم الجنوبي من جبل لبنان حصناً، يحمل مفتاحه، مقابل الحريري الذي يعتبر نفسه «بيْ» السنة وجعجع مدافعاً عن الفكرة اللبنانية العميقة إنما في ولاءاتها الخارجية، وهناك لبنانيون آخرون وملوك وأمراء ورؤساء وعرب يقلدونه باللاوعي.

لذلك ينبثق صراع حاد بين الظاهرة الترامبية ومقلّديها والمذعورين منها في اوروبا وبين فريق صيني روسي إيراني يبذل جهوداً لتنفيس ظاهرة ترامب، لأنها قد تؤدي بومضة عين الى حرب كبيرة تتحوّل نووية تطال الأرض بكاملها، وربما خارج حسابات ترامب نفسه الذي لا يريد إلا فرض الانصياع الاقتصادي والسياسي بأساليب الترهيب والتخويف.

للتذكير فإن «الظاهرة الترامبية» لا تقتصر على الابتزاز المالي، بل تذهب نحو تدمير الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية وأولها معاهدة وستفاليا القرن 17 المعقودة عام 1608 التي ابتكرت الحدود السياسية لتأكيد سيادات الدول على أراضيها، والقانون الدولي المنظم للعلاقات السياسية بينها 1945 .

لأن ما يقوم به ترامب لم يسبقه إليه أحد إلا بحروب كبيرة كانت تؤدي الى تغيير في سيادات الدول.

فها هو ترامب وبكل خفة يهدي الإسرائيليين المحتلين لفلسطين المحتلة، منطقة الجولان السوري المحتل، بالإضافة إلى مدينة القدس وأريافها والمسجد الأقصى ومدن السيد المسيح ومعظم الضفة الغربية، وبذلك تجاوز وستفاليا من جهة، مسدداً ركلات متعددة أصابت القانون الدولي في وجهه.

بيد أن الأمم المتحدة لم تعترف به ولقي معارضة أوروبية عالمية، لكن ردة الفعل الخليجية الصامتة والوجوم العربي العام، باستثناء سورية، وحلف المقاومة، جعل من ترامب مهووساً بقراراته التي لا تسري إلا في بلاده و»إسرائيل» وبعض البلدان الصغيرة المرتبطة به.

إن ما يبشر بوقف «التقدم الترامبي» هي الجهود الإيرانية التي تقاوم أقوى عقوبات اقتصادية أميركية تتعرض لها دولة حتى الآن، فتستعمل إيران قواها الاقتصادية والعسكرية والتحالفات السياسية وصداقاتها في الشرق الأوسط وروسيا والصين لتفجير ظاهرة الترامبية التي هي الأخطر من نوعها على العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

فهل هذا ممكن؟ إن هذا الحلف الايراني الدولي المتنوع يعمل على إنقاذ معاهدة وستفاليا، ومفاعيل القانون الدولي يفرض على البيت الأبيض التراجع عن مخططاته، للسيطرة على الاقتصاد العالمي والاستراتيجية الدولية. وهذا أمره لم يعد بعيداً وسط مؤشرات بدأت توحي بتراجعات أميركية، تعترف بعالم متعدّد القطب، يحصر الحروب والصراعات في أدنى مستوياتها، معيداً لأساليب التفاوض والقانون هيبتهما التاريخية، ومطلقاً رصاصات الرحمة على آخر هذا «الزمن الترامبي».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى