قيامة سورية وأهل سورية خلاصٌ للشرق وللعالم

د. بشار الجعفري

اسمحوا لي أن أنقل إلى غبطتكم تحيات سيادة الرئيس بشّار الأسد، رئيس الجمهورية العربية السورية، وأن أرحّب أيضاً بغبطتكم بيننا هنا في نيويورك وأنتم تنصّبون نيافة المتروبوليت الكلي الاحترام جوزيف زحلاوي راعياً لأبرشية نيويورك وسائر أميركا الشمالية خلفاً للمتروبوليت الراحل فيليب صليبا رحمه الله.

اسمحوا لي أن أرحب بكم وأنتم تنقلون إلى العالم أجمع رسالة السيد المسيح عليه السلام، المسيح السوري الذي جاء من أرض سورية ونَبَتَ فيها شجرةً للسلام يتفيّأ في ظلّ سكينتها كلّ طالب للأمن والطمأنينة.

أنت هنا استمرارٌ لبولس الرسول في رحلاته التبشيرية الثلاث التي انطلقت من أرض سورية، حاملاً معه إلى العالم هداية السيد المسيح عليه السلام.

أرحب بكم باسم سورية الأمّ الأكثر محبةً وألفةً وانسجاماً على الرغم من جراحها، وباسم كلّ مواطن سوري حق ومؤمن بسوريته. أرحب بكم وأنتم تمثلون سورية المعلقة على صليب الآلام، والتي تدفع ثمن اعتدالها وتسامحها ورفضها لأفكار التطرف، وها هي اليوم تقف في وجه من اتخذوا القتل شريعة لهم واعتمدوا سياسة التفرقة بين أبناء الوطن الواحد بقصد زرع الفتنة والشقاق بين أهل سورية ذوي القلوب النقية والذين صمدوا لأنّ ايمانهم بوطنهم راسخٌ في قلوبهم رسوخ جبال سورية في أرضها المعطاءة.

لا يوجد في سورية أقليات، يوجد في سورية سوريون فقط. نقطة أول السطر ولا يسعنا هنا إلا الدعاء بسلامة المطرانيْن بولس يازجي ويوحنا ابراهيم المختطفيْن من قبل أتباع الفكر الظلامي الذي لا مكان له فوق أرضنا، ونطالب بالإفراج عنهما من دون قيد أو شرط، كما نطالب القوى التي تدعم ذلك الفكر الظلامي بالضغط على الخاطفين لإطلاق سراح المطرانين.

إننا نشهدُ، غبطتكم، أحداثاً تدمي القلوب وتثقل الأرواح الطيبة النقية في مشرقنا العظيم، وهذه الأحداث مفتعلة غايتها استهداف الكنيسة المشرقية وأتباعها الذين لا يزالون متشبّثين بالأرض على الرغم من كلّ الضغوط، وتشبّثهم وثباتهم هذا يأتي نتيجة إيمانهم العميق بانتمائهم إلى كلّ ذرة تراب في ذلك الشرق الخيّر. إلا أنه لا خوف على الكنيسة المشرقية العظيمة في ظلّ وجود أبنائها في المغترب الذين يستمرّون بعزيمة كبيرة في الإبقاء على منارتها مضيئة لدرب كلّ مؤمن. وها هم أتباع الكنيسة المشرقية الأمّ في المغترب يحافظون على كنيستهم من خلال نشر كلمتها في أرجاء أميركا، فمن أبرشية واحدة أصبح هناك أكثر من ثلاثمائة أبرشية، مما يدفعنا إلى القول بأنّ أنطاكيا الجديدة موجودةٌ لتسير في درب أنطاكيا الأمّ، وهنا لا بدّ من التأكيد على ضرورة الحفاظ على وحدة هذه الكنيسة ووحدة الارشيديوسيس في وجه من يحاول المساس بوحدته ووحدة الكنيسة.

أنتم يا غبطة البطريرك تمثلون سورية التي تعاني من أحداثٍ تقصّد من قام بتأجيجها تغليب الانفعال والغرائز والهذيان بدلاً من العقل والمنطق والحكمة. أنتم تمثلون سورية التي كانت وستبقى إلى أبد الآبدين مركزاً للوسطية والاعتدال والتسامح الذي يعيش وينمو في كلّ كنيسة ومسجد ودار عبادةٍ في مختلف أرجاء البلاد. إنّ ما تعاني منه سورية يحتاج منا جميعاً أن نتكاتف ونقف صفاً واحداً في وجه رعاة الظلم ومروّجي الأفكار الظلامية، وأن نُعمِل التفكير والتعقل في كلّ ما نمرّ به، وجميعنا مدركٌ وواعٍ للدور الهام والبناء الذي يقوم به رجال الدين المسيحي والإسلامي في سورية، في الحفاظ على وحدة الوطن وتوعية المواطن درءاً لخطر الفتنة وتكريساً لقيم المحبة التي هي روح الله التي يريد للبشر العيش في كنفها.

ولا يمكننا هنا أن ننسى آلام فلسطين المستمرة منذ عقود، ولا ننسى ما يتعرّض له أبناء فلسطين من تنكيل وضغوط، ومن بينهم المسيحيون في تلك الأرض المغتصبة الذين لم تتوقف الضغوط عليهم منذ بداية اغتصاب أرض فلسطين، بما في ذلك تهديد الوجود والكينونة المشرقية لكنيستهم.

ولكن، وعلى الرغم من كلّ الصعاب، وعلى الرغم من الجرح العميق الذي لا يزال ينزف، إلا أنّ درب الآلام التي يسير فيها كلّ سوري حالياً أظهرت المعدن النقي والأصيل للمواطن السوري الذي يحمل وطنه سورية في قلبه أينما ذهب وأينما حلّ، وخير دليل على ذلك هو تشبّث السوريين المغتربين في الولايات المتحدة والأميركيتين بسلامة وطنهم الأمّ وسكينة إخوانهم هناك. أظهرت هذه المحنة الإيمان العميق للسوريين بخلاص وطنهم الأمّ، وقيامة ذلك الوطن مجدّداً، وبأبهى صورةٍ، ليثبت للعالم أجمع أنّ قيامة سورية وأهل سورية هي خلاصٌ للشرق برمّته، وللعالم، من الذهنية الإقصائية الجاهلية والقبلية التي يسعى البعض من معتنقيها جاهداً لفرضها على شعبنا وشعوب المنطقة والعالم. كما أنّ هذه المحنة أثبتت للعالم بأنّ إيمان السوريين العميق بوطنهم ينبع من إيمانهم العميق بالله تعالى وبرحمته الواسعة التي لا بدّ أن تطغى على قوى الشرّ بعد كلّ امتحان صعب.

أنتم يا غبطة البطريرك، كما تلاميذ السيد المسيح عليه السلام، تأتون من أرض سورية وتحملون في قلبكم خصوبة أرضها وعذوبة مائها ونقاء هوائها، تحملون معكم باديتها وجبالها وسهولها وبحرها، كما تحملون شباك محبة حملها السيد المسيح ليصطاد بها البشر ويعبر بهم إلى شواطئ السلام والمحبة والخلاص.

أنتم هنا يا غبطة البطريرك لتنصيب قامة سورية شامخة فخرٌ لنا جميعاً في الوطن الأمّ وفي المغترب، نيافة المتروبوليت جوزيف زحلاوي، راعياً لأبرشية نيويورك وسائر أميركا الشمالية، وأتمنى بهذه المناسبة المشرقة، لنيافته التوفيق في حمل الأمانة وإعلاء راية الكنيسة المشرقية الأمّ في المغترب، كنيسة الصراط المستقيم. كما أودّ أن أرحب بكم مجدّداً وبزيارتكم الرعوية الأولى إلى أميركا متمنياً لكم طيب الإقامة في ربوعها والتوفيق في مهمتكم الروحية النبيلة المتمثلة في نشر رسالة السيد المسيح عليه السلام في أرجاء المعمورة، رسالة تبشر بالعطاء وتثبت لجميع الطغاة بأنه لا قدرة لنار على حرق وطن كبير بحجم سورية يعيش في قلوب كلّ فردٍ من أبنائه.

إنّ سورية تستحق منا جميعاً كلّ تضحية، تستحق أن نجتمع حولها نداوي جراحها ونضمّدها، فسورية بطبيعتها البشرية تشكل بحدّ ذاتها فعل تحدّ لكلّ من يحاول المساس بها وبشعبها، فهي وطن يجمع ويلمّ الشمل وستكون قريباً مكاناً للفرح والمحبة. وكما قال السيد المسيح عليه السلام، «أنت ملح الأرض، ولكن إنْ فسد الملح فبماذا يملح… أنتم نور العالم، لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعةٌ على جبل،» وهكذا ستكون سورية من جديد ملحاً يضيف نكهة الخير للبشرية وشعلة سلام ومحبّة تنير درب كلّ من ضلّ عن طريق الله.

نصّ الكلمة التي ألقاها سفير سورية في الأمم المتحدة الدكتور بشار الجعفري ترحيباً ببطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي في الحفل الذي أقيم في نيويورك لتنصيب المتروبوليت جوزيف زحلاوي راعياً لأبرشية نيويورك وسائر أميركا الشمالية خلفاً للمتروبوليت الراحل فيليب صليبا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى