تهوّر سياسي مُكلف يرتدّ على الجمهوريين ويضعف معارضتهم للمفاوضات مع إيران
المفاوضات النووية مع إيران كانت الحدث الأبرز ضمن اهتمامات النخب الفكرية والإعلامية الأميركية، والتناقضات التي أفرزتها رسالة تهديد أعضاء الحزب الجمهوري للقيادة الإيرانية، مما استدعى تنديداً واسع النطاق، حتى انّ عدداً من الموقّعين بدأوا بمراجعة مواقفهم السابقة، أبرزهم السيناتور جون ماكين.
سيستعرض قسم التحليل الجدل المرافق للرسالة بشقّيه القانوني والدستوري، وصلاحيات كلّ من السلطة التنفيذية والتشريعية إبرام اتفاقيات مع الدول الأخرى بالإشارة أيضا الى جملة سوابق بقيام أعضاء الكونغرس من الحزبين بالتواصل السياسي مع قادة وزعماء دول أجنبية أينما خدمت أجنداتهم.
كما سيتناول التحليل مشروعية توقيع الرئيس أوباما على اتفاقيات دولية، والتي سبقه رؤساء آخرون بذلك عبر تاريخ الولايات المتحدة بيد أنّ المسألة المحورية تبقى في ديمومة مفعول الاتفاقية بعد مغادرة الرئيس أوباما للبيت الأبيض، إذ يحق لمن سيخلفه إلغاء العمل بها من جانب واحد من دون اللجوء للحصول على تأييد الكونغرس.
إيران محور صراع
وصلاحيات السلطات الاميركية
برز دور معهد كاتو في حملة ذمّ وقدح أعضاء الكونغرس الموقعين على الرسالة الموجّهة إلى القيادة الايرانية، متهماً قيادة الحزب الجمهوري بأنها تخلّت عن مسؤولياتها السياسية «لصالح تيار المحافظين الجدد في ما يخصّ بند السياسة الخارجية بأكمله، ولم تتخذ إجراءات لكبح ميول هذا النمط من الحنكة السياسية، لو سلّمنا بالقدرة على وصفها بذلك.» وحذّر المعهد من توقّع المزيد من تلك الممارسات الضارّة إنْ لم «يقفز مموّلو الحزب الجمهوري ويتخذوا قراراً بوضع حدّ لذلك التصرّف والدفع باتجاه تغيير المسار».
معهد المشروع الاميركي سعى جاهداً من جهته لتخفيف الأضرار الناجمة عن تداخل الصلاحيات الدستورية، إذ انّ «الرسالة قيد البحث تثير الشكوك لدى البعض حول الحكمة الديبلوماسية» للمضيّ بها، خاصة «أنّ العرف السياسي الأميركي المتبع منذ زمن طويل يخوّل رئيس البلاد صلاحية إدارة السياسة الخارجية حصراً»، مستدركاً «أنّ الكونغرس أيضا تصدّر مشهد السياسة الخارجية «في عدّة محطات من التاريخ الأميركي». وأوضح لمن فاته الأمر بأنّ الحكمة من وراء «حصر المسار الديبلوماسي في منصب الرئاسة كان يرمي إلى حرمان الدول الأجنبية من المناورة والتلاعب بموقف السلطات المختلفة ضدّ بعضها البعض». وحث المعارضين على عدم المبالغة بأهمية الرسالة التي لا ينبغي معاملتها أبعد من «خطاب يتضمّن نسخة من الدستور الأميركي دون عرضها على الرئيس أوباما لإبداء رأيه فيها».
واعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أنّ المسألة الأهمّ من الرسالة هي جولة المفاوضات النووية الجارية التي «لا تدلّ أيّ من المؤشرات انها ستسفر عن مجال واسع من الانفراج بأي صيغة مرئية، نظراً إلى عدم توفر أيّ تغيير كبير في سياسة إيران العدائية المعلنة نحو الولايات المتحدة واسرائيل…» وأضاف انّ «المعتدلين في الحكومة الإيرانية هم نتاج النخبة الثورية عينها التي ينتمي اليها المتشددون… وانه يمكن ملاحظة مركز توجه أولئك المعتدلين نحو الالتفات إلى معالجة احتياجات إيران الاقتصادية، وتميّزهم بالنظرة الواقعية… والتحلي بالديبلوماسية.» ولفت المركز الانتباه إلى انّ «مركز وهيكلية القوة مرتبط بشخص المرشد الأعلى، وجهاز الحرس الثوري ومتشدّدين آخرين والذين لا زالوا يتمتعون بنفوذ واسع».
تناول معهد كارنيغي مسألة التفاوض النووي مع إيران أيضاً بأسلوبه البحثي المعتاد، مذكراً كافة الأطراف بأنه «من السهل علينا إغفال أهمية عقد المفاوضات وأنه لا يتوفر لدينا خيار بديل أفضل من المسار الراهن». وحثّ الجميع على ضرورة المضيّ للخطوة المنطقية التالية «التوصل الى حلّ شامل طويل الأجل، وهو أمر غير يسير نظراً إلى أنّ واشنطن وشركاءها يطلبون المزيد من إيران للقيام به، كما انّ الإيرانيين لديهم مطالب عدة». ولم يغفل المعهد تذكير الجانب الأميركي بأنّ الطرفين، الاميركي والايراني، يتشاطران مشاعر عدم الثقة ببعضهما البعض.
أعرب معهد واشنطن عن اعتقاده بأنّ الرئيس أوباما عازم على التوصل إلى اتفاق مع إيران «انطلاقا من رغبته في إرساء أسس الانفراج» السياسي معها، ساخراً من ذلك التوجه ومؤيديه في الحكومة الاميركية استناداً إلى «تجربة مماثلة للانفراج مع الصين ذات الصدى الأجوف هذه الايام». وحذر المعهد صناع القرار من الانزلاق للمبالغة في دور إيران بمحاربة التنظيمات «السنية المتشدّدة في عقر دارها… إذ انّ مردوده سيفرط عقد الدول المنخرطة في التحالف ضدّ «داعش» وترجيح إشعال فتيل الصراع السني الشيعي في الاقليم».
مصر
تناول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية تقلّص دور مصر في الإقليم كلاعب أساسي «مقابل صعود دول اقليمية اخرى تتصدّر المشهد داخل مصر». واضاف ان ذلك «الانحدار يلخص فشل الربيع العربي في بلورة مؤسسات ومسارات سياسية تضمّ الجميع، ديمقراطية الطابع وقادرة على الاستمرار». ولفت الأنظار الى «دور كلّ من السعودية والامارات… اللتين تعتبران الساحة المصرية نقطة انطلاق لتهميش الطموحات السياسية للمجموعات الإسلامية، ومركزاً هاماً في سياق الصراع ضدّ منظمات الجهادية السلفية المتشددة.»
العراق
اعتبر معهد كارنيغي «مشاركة العشائر السنية العراقية لقوى الأمن والحشد الشعبي لإخراج داعش من الموصل، التي تتعرّض لتدهور الأحوال المعيشية والخدمات اليومية على أيدي داعش». ولفت الأنظار الى «الهوة الفاصلة بين السكان المحليين وبين الحكومة المركزية في بغداد على خلفية التجربة الطائفية والإقصائية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي… والخشية من نزعة الانتقام لدى الميليشيات الشيعية». وأضاف «انّ ثقة السنة في المؤسسة السياسية العراقية أقلّ مما كانت عليه خلال الاحتلال الأميركي… وزعماء العشائر عالقون بين المطرقة والسندان… إذ مزق داعش هياكل تمثيلها التقليدية ومنعها من حكم مناطقها». وحث تلك العشائر على «استخلاص العبرة من تجربة الصحوة الأولى، وإيجاد وسائل كفيلة بإعادة حقبة الحكم الرشيد في العراق…»
فلسطين المحتلة
طالبت مؤسسة هاريتاج الحكومة الاميركية بوقف برنامج المساعدات المقدّم إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، «الاونروا»، نظرا إلى «تخلّيها عن تطبيق مهمّتها الأساسية الممثلة بإيجاد حلّ لأزمة اللاجئين الفلسطينيين منذ عدة عقود خلت… علاوة على انتهاكها المستمرّ للدور الحيادي المنوط بها والمنظمات الدولية الأخرى». وحثت الجانب الأميركي على «استبدال مؤسسة الاونروا بجهاز آخر يضع حلاً نهائياً لوضع اللاجئين الفلسطينيين وتيسير سبل اندماجهم كمواطنين في الدول المضيفة… أو إعادة توطينهم في الضفة الغربية وغزة، كمقدّمة ضرورية لاعتبار السلطة الفلسطينية طرفاً في أيّ اتفاق سلمي نهائي بين اسرائيل والفلسطينيين».
إيران تشعل فتيل أزمة داخلية
شكلت رسالة أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري والموجهة إلى القيادة الإيرانية ساحة احتراب وصراع سياسي إضافية بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي وبشكل أدقّ بات صراع على الصلاحيات الدستورية بين السلطة التنفيذية ممثلة بالرئيس أوباما وبين السلطة التشريعية التي يتمتع الحزب الجمهوري بأغلبية واضحة فيها. إذ يزاحم الحزب الجمهوري الحكومة الأميركية في تطبيقها السياسة الخارجية وكلّ ما تقتضيه من إبرام اتفاقيات وتفاهمات دولية. المفاوضات النووية الجارية مع إيران تندرج تحت بند «الاتفاقيات»، أما إبرام معاهدات ملزمة فهي تتطلب موافقة الكونغرس ومصادقته عليها كمعاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
أهمية الرسالة لا تكمن في مفردات محتوياتها العدوانية فحسب، بل في البعد السياسي الصرف، إذ رمت «مخاطبة دولة أجنبية بشأن مسألة في صلب صلاحيات السياسة الخارجية»، التي هي من اختصاص الرئيس الأميركي، بصرف النظر عن الحزب المنتمي إليه، وفق النصوص الدستورية. كما أنها فاقمت المشادّات والمزايدات السياسية بين الحزبين، وشكلت مؤشراً على بنود «أجندة» الانتخابات الرئاسية المقبلة. ما يهمّنا في هذا الصدد الإشارة الى عمق الخلاف بين قادة الحزب الجمهوري وبين الرئيس أوباما شخصياً، والذي لا يجوز إغفال البعد العنصري له، على ضوء ما تردّد من شعارات معادية خلال أحداث فيرغسون بأنه لا يجوز لرئيس أسود ان يكمل ولايته الرئاسية.
في بعد ردود الفعل الداخلية على الرسالة لوحظ شبه إجماع على «تهوّر وغطرسة» الموقّعين، الذين ينتمي معظمهم إلى التيار الأشدّ تطرفاً وعنصرية داخل الحزب، وهو التيار الذي يتصدّر المشهد السياسي برمّته. قلة من العقلاء داخل الحزب الجمهوري أعربت عن خشيتها من الارتدادات السياسية للرسالة التي اعتبروها وسيلة غير مناسبة للتعبير عن موقف سياسي معارض، فضلاً عن تهديد راعيها، توم كوتون، لاحقاً لإيران بأنه ينبغي عليها «الاستسلام او مواجهة هجوم عسكري».
لعلّ من أهمّ ردود الفعل ما جاء على لسان رئيس مجلس العلاقات الخارجية الرصين، ليزلي غيلب، محذراً من انشطار قرار السياسة الخارجية الأميركية. وقال إنّ نزعة العداء الشخصي للرئيس أوباما، بين أقطاب الحزب الجمهوري، «تفوق كراهيتهم لإيران المسلحة نوويا». ورفض غيلب «تبريرات» أقطاب الحزب الجمهوري وعلى رأسهم جون ماكين الذي زعم بأنّ المسألة «عديمة الأهمية… وهي مجرّد زوبعة في فنجان». وأوضح غيلب أنّ «الرسالة ستترك تداعيات مستدامة على الأمن القومي الأميركي».
جذر أزمة الرسالة ضاع في سيل ردود الفعل المكثفة وحملات الانتقاد والاتهامات المتبادلة بين الطرفين. إذ جاءت بعد أيام قلائل على إلقاء نتنياهو خطابه أمام الكونغرس، وما سبقه ورافقه من حملات انتقاد لقادة الحزب الجمهوري لإصرارهم على إقحام «زعيم أجنبي» في قضية سياسية داخلية. وتعرّض رئيس مجلس النواب وصاحب الدعوة، جون بينر، الى سلسلة انتقادات قاسية لم تنقطع، وبعضها اتهمه وأقرانه بعدم جدارتهم بالقيادة السياسية وإخلالهم بالأعراف والأصول الديبلوماسية، فضلاً عن الإهانة الكبرى التي وجّهوها «عن سابق إصرار» إلى منصب الرئيس الأميركي.
أصحاب الرسالة ومؤيدوهم في المؤسسات الإعلامية المختلفة رفضوا الاتهامات الموجهة إليهم بممارسة سياسة خارجية «موازية» للسياسة الرسمية، وتنامت انتقادات تصرّفهم من قبل النخب المختلفة، وبعضها اتهمهم بارتكاب الخيانة، بل وضرورة تقديمهم للمحاكمة بتلك التهمة.
البراءة بعيدة عن الحزبين
غنيّ عن القول انّ المساحة الإعلامية المتاحة أمام الحزب الجمهوري والتيارات المتشدّدة في المشهد الأميركي كبيرة وتتميّز بوفرة الإمكانيات المادية الهائلة. بيد أنّ هذا لا يعني أنّ الطرف الآخر لا يملك شيئاً ذا قيمة، بل ما يميّزه هو سمة التردّد وتقاسم مكاسب السلطة مع حليفه الخصم.
في التاريخ الحديث، تجاوز كلا الحزبين صلاحيات الرئيس، بصرف النظر عن الحزب المنتمي إليه، ومارس سياسة خارجية مستقلة خدمة لتوجهاته. قيادة الحزب الجمهوري دافعت عن «تصرّفها» الأخير بمخاطبة زعماء دول أجنبية بالإشارة إلى الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، عام 2007، إلى سورية واجتماعها بالرئيس الأسد «نكاية» بسياسة الرئيس جورج بوش الابن الرامية إلى محاصرة سورية «ومعاقبتها لمساندة المقاومة العراقية» ضدّ الاحتلال الأميركي. كما عارضت بيلوسي قرار الرئيس بوش لغزو واحتلال العراق.
نائب الرئيس السابق، ديك تشيني، وصف اجتماع بيلوسي «بالمسلك البغيض»، مذكّراً الرأي العام الأميركي وأعضاء الكونغرس على السواء بأنّ «الرئيس هو المخوّل بتنفيذ السياسة الخارجية، وليس رئيسة مجلس النواب». هيئة تحرير صحيفة «وول ستريت جورنال،» الحليف الطبيعي لإدارة بوش وتسويق ادّعاءاتها «بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل»، وصفت الزيارة «بديبلوماسية غير قانونية،» وساقت اتهامات لبيلوسي بانها «ربما ارتكبت جرماً بسفرها إلى دمشق… ضد رغبات الرئيس، إذ تداولت قضايا تخصّ السياسة الخارجية مع الرئيس السوري بشار الأسد»، في نيسان 2007.
وخلال زيارتها إلى دمشق صرّحت بيلوسي انّ «الطريق الى دمشق يقود إلى طريق السلام».
المرشح الرئاسي لعام 1968، ريتشارد نيكسون، أوفد واحدة من كبار مساعديه، آنا شينولت، إلى سايغون في مهمة سرية حثت فيها حكومة فيتنام الجنوبية على الانسحاب من محادثات السلام الى ما بعد نهاية الانتخابات في شهر تشرين الثاني من ذاك العام قاطعاً وعده للقيادة الفيتنامية بالتوصل إلى «اتفاق أفضل» مما عرضه عليها الرئيس ليندون جونسون. كما تواصل الرئيس الجمهوري المرشح رونالد ريغان مع محتجزي الرهائن الأميركيين في طهران متوسلاً عدم توقيع اتفاق مع الرئيس جيمي كارتر، والانتظار الى ما بعد فترة الانتخابات، ومن ثمّ كرّت مسبحة «ايران غيت».
جدير بالذكر انّ الساسة الاميركيين من الحزبين مسكونون بهاجس الاصطفاف الى جانب «الحكومة الاسرائيلية،» وتلبية احتياجاتها على الفور. في الظرف الحالي نشهد ممثلي الحزب الجمهوري يتسابقون إلى نيل رضى «الإسرائيليين»، ودفع السياسة الأميركية إلى مزيد من المغامرات العسكرية وسباق التسلح.
الصلاحية لمن؟
المادة الثانية من الدستور الأميركي توكل مهمة السياسة الخارجية بمنصب الرئيس، وتحدّد دور مجلس الشيوخ «بإبداء المشورة والموافقة على المعاهدات، شريطة توفر ثلثي عدد أصوات الحاضرين.» ومارس أعضاء الكونغرس، على مرّ العصور، بعض مهام السياسة الخارجية على عاتقهم «أحياناً»، وأحياناً أخرى بتكليف رسمي غير معلن في الأغلب.
يذكر انّ السيناتور المناهض لحرب فييتنام، جورج ماكغفرن، قام بزيارة كوبا والتقى مسؤوليها عام 1975 كما زار السيناتور آنذاك جون كيري نيكاراغوا عام 1985 وتفاوض مع الحكومة الساندانية وحظيَ «بوعد قطعه الرئيس دانيال اورتيغا معرباً عن رغبته بقبول وقف إطلاق النار شريطة رفض الكونغرس تقديم الدعم للمتمرّدين» الكونترا.
الأمثلة على ذلك عديدة ومتشعّبة، فضلاً عن تتويج أيّ مرشح رئاسي محتمل حملته بزيارة للكيان «الاسرائيلي»، بصفته الرسمية كما فعل المرشح أوباما آنذاك. بيد أنّ الظرف القاطع في طبيعة المهمة هو ألا تتجاوز «تبادل الآراء» مع الحكومات الأخرى وعدم التدخل في أيّ مفاوضات حساسة تجري على قدم وساق.
في الجانب الدستوري الصرف، هناك فسحة ضبابية في تفسير الصلاحيات الواردة، والتي يستغلها كلا الحزبين للنيل من الآخر. استاذ القانون الدستوري في جامعة هارفارد الذي يعدّ مرجعية في حقله، جاك سميث، أدلى بدلوه في هذه المسألة بالقول «إنّ اقطاب الحزب الجمهوري لديهم صوابية في الادّعاء بأنّ الرئيس لا يملك الصلاحية الدستورية للتفاوض على اتفاقية تندرج تحت باب قرارات رئاسية، انّ معظم اتفاقيات الحدّ من الأسلحة جرى إبرامها كمعاهدات تحتاج موافقة من مجلس الشيوخ، باستثناء وحيد ألا وهو معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية «سالت 1»، التي نالت اتفاقاً مشتركاً بين الكونغرس والسلطة التنفيذية».
تجدر الإشارة الى قيام عدد من الرؤساء الأميركيين بالتوقيع على اتفاقيات مع دول أخرى «من طرف أحادي أيّ دون اللجوء إلى موافقة الكونغرس»، أبرزها «مبدأ مونرو،» لعام 1823، الذي أرسى أسس السياسة الخارجية للولايات المتحدة وفق قاعدة «حق كافة دول» الأميركيتين بالاستقلال عن «التدخل الغربي». وما لبثت اميركا ان انقلبت عليه في عهد الرئيس ثيودور روزفلت الذي منح الولايات المتحدة حقاً حصرياً في التدخل بالدول الأميركية، بدءاً بجمهورية الدومينيكان عام 1905، نيكاراغوا عام 1912 وهايتي عام 1915. وأعاد وزير الخارجية جون كيري التأكيد على عدم صلاحية «مبدأ مونرو»، في خطابه أمام منظمة الدول الأميركية في شهر تشرين الثاني 2013. وعليه، لم يبالغ الجمهوريون بالادّعاء بأنّ الرئيس المقبل سيتمكّن من إلغاء أيّ اتفاق يتوصل إليه الرئيس أوباما مع إيران.
تربص الحزبين ببعضهما
تباين وجهات النظر بين الحزبين، وانْ اتسم بالعمق والعداء، لا يفسد الودّ المتبادل بينهما في تقاسم السلطة ومكاسبها. بيد انّ مسيرة الحزبين شهدت انعطافاً حاداً وانقساماً عمودياً في المجتمع الأميركي إبان فترة النهوض الشعبي المعارض للحرب الأميركية على فييتنام، على خلفية توجيه اتهامات بالفساد ومحاكمة الرئيس الجمهوري الأسبق ريتشارد نيكسون، والذي قدّم استقالته قبل البدء بالإجراءات القانونية.
انتهز الحزب الجمهوري فرصة فوزه الساحق بمقاعد مجلسي الكونغرس في عهد الرئيس بيل كلينتون، وبدافع الانتقام من إقصاء خصومه للرئيس نيكسون، وجه مجلس النواب بقيادته المتطرفة اتهاماً إلى الرئيس كلينتون ومقاضاته لثبوت إدلائه بشهادة كاذبة في ما عرف بفضيحة مونيكا لوينسكي. بيد انّ حنكة كلينتون السياسية أفشلت مساعي الكونغرس وأسقطت التهمة بعد إحالتها إلى مجلس الشيوخ.
الحزب الجمهوري، عقب نشوة انتصاراته الانتخابية الأخيرة، توعّد بإعاقة سياسات الرئيس أوباما، وذهب البعض إلى المطالبة بمحاكمته اسوة بالرئيس الأسبق بيل كلينتون. ونفذ الحزب وعوده بعدم البتّ في مشاريع وسياسات تتطلب موافقة الكونغرس عليها، أبرزها إغلاق الحزب للمرافق الحكومية بالكامل على خلفية خلافات بشأن بنود الميزانية.
نزعة الانتقام لا زالت قائمة داخل الحزب الجمهوري، الأمر الذي حفز بعض قيادات الحزب الديمقراطي على تذكير خصومهم بأنّ النيل من شخص الرئيس أوباما لن يمرّ من دون عواقب، وفي الخلفية ما اعتبروه إهانة مكانة الرئيس بدعوة نتنياهو إلقاء خطابه أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس.
السياسي المخضرم والذي ينصت إليه بشغف في أروقة واشنطن السياسية، ليزلي غيلب، حذر أركان الحزب الجمهوري بوضوح قائلاً: «لا تظنوا ولو لبرهة انّ الديمقراطيين سيغفرون لكم تلك الممارسات التي تقارب الغدر والخيانة لرئيس ينتمي إلى حزبهم عندما تحين الفرصة لاعتلاء رئيس جمهوري سدة الرئاسة». وأضاف بلهجة قاسية: «لا تتوقّعوا من الديمقراطيين أن يصبحوا قدّيسين ونموذجاً لضبط النفس على خلفية مسلك رئيس مجلس النواب جون بينر وأولئك السبعة والأربعين عضواً عن الحزب الجمهوري». ديلي بيست الالكترونية، 10 آذار 2015
تقنين السياسة الخارجية الأميركية
في ظلّ مناخ المفاوضات الجارية مع إيران، يمكن للمرء ان يتلمّس ثلاثة أركان قانونية في السياسة الخارجية: الصلاحيات الرئاسية، الصلاحيات القانونية، وحقائق الوضع الراهن. ومنذ تأسيس النظام الاميركي سمح للمؤسسة الرئاسية التمتع بحيّز مناورة كبير خاصة في ما يتعلق بالمداولات مع الدول الأجنبية استناداً إلى النصوص الدستورية والأعراف القومية والسلطة القضائية مجتمعة. ودرجت العادة على الموافقة على الاتفاقيات التي تعقدها المؤسسة الرئاسية، منذ أن اعتلت الولايات المتحدة صدارة المشهد الدولي منذ ثمانية عقود من الزمن.
وعليه، أضحت الاتفاقيات الرئاسية، كما يجري توصيفها، ملزمة قانونياً كأحد اركان السياسة الخارجية في عهد الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت، الذي اعترف بالاتحاد السوفياتي عام 1933 مقابل تقديم بعض التعهّدات. وعند مقاضاة قرار الرئيس اصطفّت المحكمة العليا الى جانب الرئاسة بالقول «إقدام الرئيس على الاعتراف بالحكومة السوفياتية، والاتفاقيات المرفقة، تشكل عهداً دولياً أقدم عليه الرئيس بصفته «العنصر الوحيد» المخوّل بالإشراف على العلاقات الدولية الخاصة بالولايات المتحدة، وهو مخوّل بها دون العودة لاستشارة مجلس الشيوخ».
وحظيت المؤسسة الرئاسية بدعم إضافي متين في عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي سحب اعتراف الولايات المتحدة بجمهورية الصين تايوان فرموزا ومنح الاعتراف لجمهورية الصين الشعبية، وألغى من جانب واحد معاهدة الدفاع المبرمة مع تايوان والتي نالت موافقة مجلس الشيوخ آنذاك.
يستنتج من ذلك المسار إقرار السلطة القضائية بصلاحية الرئيس أوباما إجراء مفاوضات وتوقيع اتفاق مع إيران، في اللحظة الراهنة. واستدرك القضاء بالقول إنّ صلاحية الرئيس لتقرير السياسة الخارجية تنتهي حدودها على الشواطئ الاميركية، اذ تسود عليها القوانين والدستور الاميركي.
اذن، صلاحيات السلطة التشريعية ممثلة بمجلسي الشيوخ والنواب تبدأ من عند انتهاء مفعول السياسة الخارجية قانونياً.
في هذا الشأن، أقرّت السلطة القضائية بأنّ المعاهدات المبرمة لها صلاحية ومفعول القانون مرجعيتها النصوص الدستورية. وعليه، من أجل أن تحظى المعاهدات بشرعية سريان القانون الاميركي عليها، ينبغي مصادقة مجلس الشيوخ على نصوصها بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين.
للدلالة على المسألة تنبغي الإشارة إلى توقيع الولايات المتحدة على المعاهدة الدولية للحدّ من الاتجار بالأسلحة عام 2013، بيد أنّ مجلس الشيوخ لم يُضفِ عليها مشروعية واستثناها من تطبيق بنودها داخل الأراضي الاميركية، بينما يسري مفعولها على الصعيد الدولي. يشار إلى معارضة مجلس الشيوخ المصادقة عليها لاعتبارها تتعارض مع نصوص مادة التعديل الثانية من الدستور الأميركي بترخيص السلاح الفردي.
غنيّ عن القول إنّ المعاهدات الدولية تستدعي توفير ميزانيات مالية من جانب الدول الموقعة، والتي يتحكم مجلس النواب بإقرار أي بند من بنود الميزانية الحكومية، بما فيها الاتفاقيات الرئاسية التي تخضع لشروط التمويل الاميركية واعتمادها وفق الأصول المتبعة.
يُشار الى تحذير موقّعي الرسالة الموجهة إلى إيران بإمكانية إبطال مفعول الاتفاقية قيد البحث من قبل الرئيس المقبل، استناداً إلى فرضية فوز مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية، والتي سيتمّ إدراجها على جدول أعمال مجلس الأمن الدولي لإقرارها. المعارضون الجمهوريون يتسلّحون بنصّ قانون فيدرالي أقرّ مشاركة اميركا في الهيئة الدولية، 20 كانون الأول 1945، ينصّ على عدم حلول أو صلاحية أيّ قرار أممي مكان الصلاحيات الدستورية الخاصة بالسلطة التشريعية بمجلسيها. بعبارة أخرى، القول الفصل هو للدستور الأميركي حتى لو تعلّق الأمر بالأمم المتحدة.
الركن الثالث المكوّن للسياسة الأميركية هو الوضع السياسي الراهن، والذي قد لا يؤثر سلباً على المفاوضات الجارية، بيد أنه ينبغي أخذه في الحسبان إلى حين مغادرة الرئيس أوباما منصبه وصلاحياته الرئاسية في 20 كانون الثاني 2017، في ما يخصّ سريان مفعول الاتفاق.
القوى المناهضة للاتفاق مع إيران أحيت المشاعر الشعبية المعادية لإيران، والتذكير بأزمة الرهائن الأميركيين. وعليه، أشارت جملة من استطلاعات حديثة للرأي قلق الأغلبية الساحقة من الأميركيين، 71 ، من قدرة الاتفاق على لجم إيران من الحصول على أسلحة نووية، مقابل 24 أيدوا الاتفاق.
استناداً الى هذه الخلفية، تجري اصطفافات مبكرة للمرشحين المرجحين لمنصب الرئاسة وتسابُقهم على التنديد بالاتفاق وإطلاق الوعود لإبطال مفعوله بعد الفوز، كان من أبرزهم حاكم ولاية ويسكونسن، سكوت ووكر، الذي طالب الرئيس المقبل بعدم الانصياع لنصوص الاتفاق انْ لم يحظَ بموافقة الكونغرس.
ديمومة الاتفاق النووي
من بين الثوابت المسلّم بها أنّ الرئيس أوباما لديه الصلاحية السياسية والقانونية لتوقيع اتفاق مع إيران، شريطة عدم تعارضه مع الدستور والقوانين الوضعية سارية المفعول، ولم يكن في وسع مناوئيه في الكونغرس تعديل الأمر في المرحلة الحالية.
بيد انّ تلك الصلاحية لا تلغي تلقائياً الدور التقليدي لأعضاء الكونغرس بحق التواصل المباشر مع قيادات دول أخرى أو الحدّ من تصريحاتهم المناوئة للاتفاق. وعليه، فإنّ مستقبل الاتفاق يكتنفه الغموض على المدى الطويل، لا سيما في الشق القانوني، والذي انْ أخفق في الحصول على موافقة مجلس الشيوخ سيبقى مدرجاً ضمن «الاتفاقيات الرئاسية»، التي باستطاعة ايّ رئيس مقبل إبطال مفعولها بما فيها إعادة العمل بالعقوبات الاقتصادية التي قد يرفعها الرئيس أوباما.
وذكّر ليزلي غيلب مناهضي الاتفاق للمرة الأخيرة، لا سيما الجمهوريين، بعدم جواز مقارنة الاتفاق المزمع بمعاهدة ميونيخ لعام 1938 التي أجازت الدول الأوروبية لألمانيا النازية ابتلاع مساحات واسعة من أراضي تشيكوسلوفاكيا، او اعتباره تخلياً طوعياً من الرئيس أوباما عن التزامات دولية «كما بدأ يلحن له رئيس وزراء الاغتيالات الإسرائيلي امام الكونغرس».