الماركسية إرث تاريخي… هل تملك شروط الإحاطة بالتطوّر التاريخي للأمم والوعي القومي؟

إن إحدى أهم النتائج التي ترتبت على سقوط الإمبراطوريات، كان تأكيد الوجود القومي كوجودٍ حقيقي، لم تقوَ السياسات الإمبراطورية على محوه، فهذه هي القوميات تعود للظهور على مسرح التاريخ وتنهض من بين تفسّخات الإمبراطوريات، لترسم مسارات عميقة الأثر في الاستراتيجيات الدولية، بل لتقود العالم بوحي المصالح القومية.

يقارب الباحث والمفكّر محمد معتوق مفهوم الأمة والقومية من خلال نظريات متعدّدة، منها الماركسية اللينينية والماوية ومساهمتها في خلق الحزب وصولاً إلى الوعي القومي المتجلّي في القومية الاجتماعية. و«البناء» إذ تنشر هذه الدراسة القيّمة فلأن تداعي الأحداث على مدى العالم عاد ليؤكد ويكرس الوجود القومي كوجود حقيقي يتجاوز مرحلة الاستيعاب الأممي التي حاولت فيها الأممية تسفيه هذا الوجود ونفيه كقوّة محركّة للتاريخ.

فـ«البناء» وانطلاقاً من هدفها في نشر الدراسات العقائدية والعلمية والفلسفية، تأمل أن تشهد صفحة الدراسات فيها حواراً عميقاً مسؤولاً وموضوعياً حول المرحلة التي تلت انهيار الأممية وعودة بروز القومية كقوّة فاعلة في صناعة التاريخ، والبحث عن أسباب هذا التحوّل بعد تطبيق النظرية الماركسية ـ اللينينية قرابة 75 سنة. إذ أن سؤالاً يطرح نفسه، وهو حول ماهية القوة الاجتماعية طبقة التي نشأت في ظلّ المرحلة الشيوعية واستطاعت أن تهدّ البنيان الشيوعي وتعود بالمجتمع إلى الحالة الرأسمالية، هل هي المادية التاريخية؟!

إن الإجابة على مثل هذه الأسئلة يوضح طبيعة فلسفة التاريخ وطبيعة القوى المحرّكة له والتي تأتي القومية في مقدّمها.

في هذا العدد، يعرض الكاتب مدارس ماركسية ومفكّرين ماركسيين في مقاربة تمهيدية لطرح الفكر القومي في مواجهة الأسئلة الكبرى والتحوّلات العميقة.

محمد معتوق

قياساً على تطوّر الطبيعة وأشيائها، يدور حديث بدأ، منذ حزيران 1967، عن التطور في العقائد والأفكار، والتبدل في النظرة إلى العالم وحركته وظروف تحوّله.

ومنذ أن تبنى حزب البعث العربي الاشتراكي الشام النظرية الماركسية في الاقتصاد والفهم المادي الديالكتيكي للحركة، ومنذ أن تحول القوميون العرب الى منظمة اشتراكيين لبنانيين وحزب عمل اشتراكي عربي متبنين في المنظمة والحزب الاشتراكية العلمية وبذلك المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ومختلفين، في المنظمة والحزب، حول فهم الواقع العربي وقضية فلسطين ومسألة الوحدة العربية… منذ هذين الحدثين، وعديدون، كان لهم فضل كبير في تحول الحزب والحركة إلى الماركسية، يحاولون أن يدفعوا، بالأحزاب الأخرى التي لا تتبنى الماركسية أن تحذو حذو البعثيين والقوميين العرب.

وليس جزءاً من عملنا، هنا، أن نتبيّن المخططات التي يسير هؤلاء الأفراد وفقها ونتبيّن هوية وأغراض واضعيها وموقفهم من القضية القومية الشاملة.

غير أن ما نريده في هذه الدراسة هو المقارنة بين ظروف تبديل الحزبيين الآخرين عقائدهما أو تطويرها والدعوة التي يوجهها لنا بعض المفكرين لنقتدي بهم. كما نريد، هنا، أن نوضح الإشكالات الفكرية التي تحكم سوء فهم هؤلاء المفكرين للفكر القومي الاجتماعي.

وليس من داع للاسترسال في توضيح أن المطلوب من المفكرين، الذين ذكرنا، لا أن يحولوا الأحزاب اللاماركسية إلى أحزاب ماركسية بل أن يحوّلوا الأحزاب الماركسية، عينها، إلى حزب ماركسي واحد، وليس يفيد استبعاد الفكرة أن يقال أن لا ضرر من تعددية الفصائل الماركسية وأن ذلك دليل على غنى الماركسية وقدرتها على استيعاب هذه الاختلافات.

إذ أن الفكر الملتزم قضية شعب ملزم بأن يخرج إلى معتنقيه لإثبات غناه أيضاً نظرية تؤكد ضرورة وجودهم في تنظيم حركي واحد.

هذا كلام يفترض أن يقوله الماركسيون السوريون، بعضهم للبعض الآخر. أما ما نقوله نحن فيلغي الحاجة حتى الى التنظيم الحركي الواحد المذكور. أن ما تريد هذه الدراسة أن تبرهن عليه هو واحد: أن طريق خلاص العالم هو القومية الاجتماعية التي وضع سعادة أساسها الفلسفي، والحزب هو الأداة.

كان أبرز ما أكده البيان الشيوعي، في جملة الأمور التي عرض لها، هو أن دخول العلاقات الرأسمالية وتطورها في مجتمع ما يقودان الى انقسام هذا المجتمع الى طبقتين: البروليتاريا والبورجوازية. وأن البروليتاريا الحاملة عذابات المجتمع كله ستحرر هذا المجتمع مع تسلمها السلطة السياسية بنتيجة انتصارها في الصراع الطبقي الذي يحكم علاقتها مع الطبقة البورجوازية.

وانقسام المجتمع الى طبقتين أمر محتوم في رأي ماركس. إذ أن الطبقات المتوسطة لن تلبث أن تتساقط وترفد البروليتاريا مع تطور الرأسمال وتمركز الإنتاج ونشوء الكارتلات. وكان ينظر الى أي من المجتمعات الأوروبية على أنه المجتمع الأمثل لحصول الثورة الاشتراكية، ذلك أن فراغ المجتمع إلا من طبقتين هما الطبقة البروليتارية والطبقة البورجوازية هو البداية نحو صراع طبقي علني وصريح نتيجته مفروغ منها وهي تعني انتصار البروليتاريا.

ولم يقصر ماركس كلامه على طبقتي البورجوازية والبروليتاريا بل تعرض الى الطبقات الأخرى فتكلم عن تذبذب طبقة البورجوازية الصغرى كما تكلم عن الفلاحين.

هجاء الفلاحين

أما كلامه عن الفلاحين فقد سمي هجاء لهم. فهو من قال إن من فضائل البورجوازية العظمى أنها خلصت قسماً كبيراً من السكان من بلادة الحياة الريفية وحكمت شعوب المدينة بشعوب الريف كما كان ماركس يصف الفلاحين بأنهم رجعيون وأنهم يقفون دائماً الى جانب البورجواية على أساس أن أقصى ما يطمحون إليه هو الحصول على قطعة أرض يعتاشون منها وتوفر لهم الثروة والرفاهية، وكان ينصح بشدة بالابتعاد عن هذا الفلاح الذي يطالب بالحصول على قطعة أرض خاصة به لأن ذلك يعني إجهاض الثورة الاشتراكية وإعادة البورجوازية وإيديولوجيتها الى السلطة والسيطرة.

وتأكيداً على ضرورة إقصاء الفلاحين بالذات عن الحركة الاشتراكية تراجع ماركس عن فكرة الحزب الشيوعي كتابات 1865 و1869 بحجة أن أي نظام حزبي مهما كان ثورياً لا يستطيع أن يستقطب البروليتاريا لمدة طويلة لذلك فعلى البروليتاريا أن تناضل في النقابات. ووصف ماركس النقابات بأنها «مدارس الاشتراكية».

وبذلك فإن النقابات اعتبرت عند ماركس أكثر ارتباطاً بالعمل اليومي من أي حزب آخر هي وعاء نضال الطبقة العاملة وبذلك أيضاً أقصي الفلاحون في الريف عن القدرة في المساهمة في العمل الثوري.

لماذا إبعاد الفلاحين؟

لماذا أبعد ماركس الفلاحين عن الحركة الثورية؟ يسأل المطالعون لأصول الفكر الماركسي؟

مما لا شك فيه أن ابتعاد الريف من المدينة وبؤر الثقافة والمدنية يبقي الفلاحين في حالة من التمدن متخلفة عن حالة أهل المدن ويجعل الفلاحين في حالة من التمدن متخلفة عن حالة أهل المدن ويجعل الفلاحين مقصرين عن فهم التصور العلمي للعالم ومقصرين بالتالي عن دخول حركة تطوره وتغييره.

ومما لا شك فيه أيضاً أن مواقع الفلاحين الطبقية، بصورة عامة، في ظل علاقات اقتصادية اقطاعية يجعل مصلحة الفلاحين، كطبقة، مقتصرة على المطالبة بتوزيع الأراضي واستثمارها والاستفادة المباشرة من عملهم فيها.

إلا أن ما يقدمه، كذريعة، المدافعون عن ماركس في هجائه للفلاحين هو أن ماركس كان خصماً لدوداً للويس بونابرت وأن الفلاحين كانوا غالبية أنصاره. وأن عداء ماركس لبونابرت تحول باتجاه الفلاحين فجعله يقول بأبعادهم.

ولا يحتاج الى كبير عناء تبيان هشاشة هذا التبرير لاقصاء ماركس الفلاحين، لأن ذلك سيوحي بضرورة اعادة النظر بكل ما جاء به ماركس على أرضية عدائه لشخص ما ولأتباعه وصداقته لغيره ولأتباعه أيضاً.

والحقيقة في هذا الموضوع في أن الماركسية هي ابنة الثقافة الأوروبية في القرن التاسع عشر، وهو ما قاله ماو نفسه عندما عرض عليه تبني الماركسية ـ وكون الماركسية كذلك يفترض أن تتعامل الماركسية مع الأدوات الجاهزة. فلم يكن في بريطانيا أي أثر الفلاحين. كما كانت بريطانيا هي الدولة التي كان ماركس يعتقد بأن بروليتارييها سيقيمون النظام الاشتراكي الأول. وبذلك فقد وجد ماركس نفسه مضطراً الى النظر الى المجتمعات الباقية بمنظار الأوضاع البريطانية الخاصة.

لينين: الغالبية الساحقة تفرض نفسها

مع لينين، آخذ الفلاحون دوراً مهماً في الحركة الثورية. فالدولة التي أقامتها الثورة البولشفية عام 1917 دعيت بدولة العمال والفلاحين.

كان لينين مضطراً الى اعتماد عنصر الفلاحين لأنهم كانوا يشكلون الغالبية الساحقة في المجتمع الروسي. ابان ذلك كان كلام «تروتسكي» أن روسيا هي أشبه بجزيرة يحيط بها بحر من الفلاحين.

ولم يطرح لينين، كصيغة لتحالف العمال والفلاحين، القول بحرب المستقلين بفتح الغين ضد المستغلين بكسر الغين ـ وهي صيغة الشعبيين الذين كانوا أنشط الفئات السياسية قبل نشوء الحزب البولشفي. بل بقي لينين يعتقد بأن ديكتاتورية البروليتاريا هي التي يجب أن تقام.

وقد كان واضحاً أن فترة 1918 كانت ستكون فترة التحويل الاشتراكي الزراعي لولا أن الحرب الأهلية اندلعت.

وخلال الحرب الأهلية كان الريف يرفد المقاتلين في المدن بكل المؤن مجانياً. ذلك أن غالبية الفلاحين كانت تعرف أن عودة «البيض» الى السلطة ستعني فقدانهم الأرض التي أعطيت لهم عقيب انتصار الثورة.

فلم تنته الحرب حتى بادر البلاشفة الى تكريم الفلاحين وتأخير التحويل الاشتراكي.

ومع أن لينين أعلن عشية انتصار الثورة البولشفية أن الديكتاتورية التي ستقام هي ديكتاتورية البروليتاريا، فإن المهمات التي أنجزتها الثورة في بداية انتصارها كانت مهاماً بورجوازية في طليعة لائحتها توزيع الأراضي على الفلاحين.

ولكن توزيع الأراضي كان يهدد بتزايد نسبة البورجوازية الصغيرة الخاضعة لإيديولوجية البورجوازية الكبرى ما كان سيعني احتمال سيطرة البورجوازية على السلطة وإجهاض الثورة البولشفية. ولذلك كان إسراع البلاشفة بالتحويل الاشتراكي الزراعي.

وبناء عليه فقد سعرت الحرب الطبقية في الريف ليس لغاية انتصار فئة على فئة بل لفرز الفلاحين الفقراء عن الفلاحين الملاكين لفرز الفلاحين الذين لا يملكون عن الفلاحين الذين يملكون وذلك لضرب وحدة الطبقة الفلاحية ـ رغم تفاوتها ـ وما تعنيه من عودة البورجوازية الى الحكم.

المساهمة اللينينية الكبرى: الحزب

إلا أن مساهمة لينين الكبرى في تطوير الماركسية لم تكن في التعاون مع أشباه البروليتاريا من الفلاحين ومع الفلاحين الفقراء الذين يكنون العداء للاقطاع الأرضي، بل كانت المساهمة الكبرى هي في بناء الحزب اللينيني ليكون آلة الثورة ولإقامة ديكتاتورية الطبقة الحاكمة.

ذكرنا أن ماركس تراجع عن فكرة إنشاء الحزب الشيوعي ودعا الى نضال العمال في نقاباتهم التي أسماها بمدارس الاشتراكية. وقد بقي محافظاً على شكل الحزب الماركسي روزالوكسمبورغ، ومعها اختلف لينين حول نقاط عديدة في طليعتها مسألة نشوء الحزب.

فمع لينين وروزالوكسمبورغ برزت فكرة الاعتماد على أحد اثنين: العفوية الجماهيرية والوعي.

وقد كانت لوكسمبورغ من مؤيدي ماركس الذي اعتبر أن على البروليتاريا أن تعلم المثقفين لا العكس وأن كل دعوة الى تثقيف البروليتاريا تحمل في بطانها اتجاه نحو تزييف فكرها وتضليلها.

وعلى أساس هذا كانت روزا لوكسمبورغ، وماركس قبلها، تقول بأن إنشاء الحزب هو خطوة نحو تضليل العمال خصوصاً أن بنية الحزب اللينيني تفترض وجود منظمة ثوريين محترفين على قمة الحزب تؤسس نفسها ثم تبدأ بالعمل الدعاوى ثم بالعمل السياسي. وأن هؤلاء الثوريين هم عادة من الطلبة والمثقفين في أغلبيتهم وليسوا بالضرورة من العمال وأن لهم الأمر النهائي في العمل السياسي في حالات الطوارئ لأن العمل الديمقراطي في تلك الحالات يفترض أن يعطل.

وقد وجهت للبنين اتهامات بأنه يحرف الماركسية بإنشاء الحزب لجهة كون الماركسية الأورثوذكسية تمنع العمل السياسي باسم البروليتاريا خارج النقابات أو خارج تنظيمات تشابهها. واستطاع لينين أن يتهرب من هذه الاتهامات بأن أعلن أن هناك ترابطاً بين الوعي والعفوية الجماهيرية.

وأن العفوية الجماهيرية تقدم الدروس للمحترفين الثوريين وعندها يستطيع هؤلاء الأخيرون أن يثقفوا العمال ويوجهونهم.

ولا يزال هناك حتى الآن كلام عن أن لينين قد طور الماركسية باتجاه روستتها. إلا أن هناك تأكيداً بأن الماركسية مع لينين قد تطورت فقط وأن الكلام عن اختراقها غير وارد.

والحقيقة أن فكرة الحزب، في الأخير، تعني أمرين أساسيين جداً، أولهما هو أن الحزب يعني نقض الحثمية المادية خاصة وأن الحزب اللينيني في مرحلته الجماهيرية لم يمنع على أحد الانتساب إليه ما دام أنه موافق على برنامج الحزب السياسي المعلن على الجماهير. أما الأمر الثاني فهو أن القول بضرورة توعية البروليتاريا، مضافاً الى القول الأول، يعني تحول الماركسية ـ اللينينية الى إيديولوجية تقول بأصول معينة للتحالفات في العمل السياسي وتقول بأحداث إنجازات معينة في حقل الاقتصاد عند الوصول الى السلطة. بالإضافة الى أن سلطة البروليتاريا لا يمثلها بروليتاريون بل مثقفون وأصحاب مهن يتبنون الايديولوجية العمالية.

هل ما أقدم عليه لينين في مجالي العمل السياسي والبناء الفكري هو تطوير للماركسية، تنمية لها أم تبديل؟

يسمع الكثيرون «باللينينية». غير أن لينين بالذات يعتبر نفسه ماركسيا وشعار حزبه رغم إضافة المنجل الممثل التعاون مع الفلاحين هو «يا عمال العالم اتحدوا» وهو النداء الذي وجهه ماركس وانغلز في نهاية البيان الشيوعي عام 1848.

… ويا أيتها الأمم المضطهدة

الا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن لينين نفسه هو الذي وضع، في ما بعد، شعار «يا عمال العالم اتحدوا! ويا أيتها الأمم المضطهدة اتحدي». وقد قال في معرض جوابه على سؤال وجه اليه من أحد الرفاق عما جرى حتى تغير هذا الشعار ومتى قررت اللجنة المركزية تعديله بهذا الشكل، قال أنه ليس من الضروري أن تتخذ اللجنة المركزية قراراً في مثل هذا الكلام وأن الشعار القديم كان له زمانه، وأن هناك ما يحتم رفع هذا الشعار الجديد.

ومما لا شك فيه أن لينين قد استعان بالمنهج التحليلي الماركسي لجلاء مواقع الطبقات المختلفة في المجتمع الروسي وأنه قد تقيد بالمواقف الماركسية الكلاسيكية في كثير من الأحيان، غير أن مما لا شك فيه أيضاً هو أنه قد خرج في كثير من الأحيان على تلك المواقف الماركسية خاصة في اقامة بعض التحالفات السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي.

والصحيح أن لينين قد بقي حريصاً على التراث الماركسي ينهل منه كلما دعت الحاجة غير أن الصحيح أيضاً هو أن الكثير مما يدلل على ماركسية لينين يقع في باب المسائل النظرية، وخاصة دفاتره عن الديالكتيك.

لينين: لا للفلسفة الكاملة

من هذا كله هو أن ماركس قد بنى فلسفة متكاملة مادية ذات نظرة الى الحياة والتاريخ وقد عبر عنها في مواقفه من القومية، وفي أسلوب وأشكال العمل السياسي، وفي الموقف من الوحدات والحركات الانفصالية وغير ذلك. أما لينين فلم يهتم ببناء فلسفة خاصة به كما لم يبق على الفلسفة الماركسية كما هي بل اخترقها في تغير قليلة ثم أكبر في الموقف من القوميات وفي أسلوب العمل السياسي بناء الحزب وغير ذلك. وهذه مسألة مهمة تؤكدها كتابات لينين الكثيرة.

إن أكثر ما نال اهتمام لينين في العمل السياسي كان إنجاح مخطط الحزب البولشفي في الوصول الى السلطة والانتصال الى مرحلة «ديكتاتورية البروليتاريا». وليس هنا مجال الكلام عن حنكة الرجل في تحقيق هذا المخطط بل الأهم من ذلك هو أنه لم يراع في عمله السياسي بناء فلسفياً شيده لنفسه بل ترك للظروف الموضوعية والذاتية أن تقدم له مشاريع حلول كان دائماً يختار أفضلها.

فانون: هجاء البورجوازية في المستعمرات

ونصل إلى فاتون. فرانتز فانون الأفريقي. لم يعد العمال هم الطبقة الوحيدة التي تقوم بالثورة عند فانون، كما عند ماركس ولم يعد العمال الطبقة المشاركة في الثورة وصاحبة الإيديولوجية التي يجب أن تسود لتحرير المجتمع، كما عند لينين.

وإذا كان أن فانون لم يعتمد العمال في نظريته عن الثورة فهو أيضاً لم يعتمد البورجوازية «الوطنية»، بورجوازية المدن.

يشن فانون أشرس حملة عدائية ضد بورجوازية المدن. فهو يعتبر أن هذه البورجوازية هي بورجوازية عملية للمستعمر وأنها «نخبة قاذورات المدن وصفوة نفاياتها في العالم الكولونيالي وهي إذ تتركز في المدن فإنها تركز في ذاتها كل الصفات المميزة للهجين، النفل، الخلاسي، من الظاهرات التاريخية والتركيبات الاجتماعية».

ويعتبر فانون أن البورجوازية الوطنية مستحيلة كمقولة تاريخية في العالم الكولونيالي. فهي إما أن تكون وطنية وبهذا لا تعود بورجوازية، وإما أن تكون بورجوازية وهي بذلك لا تعود وطنية.

ويعتبر أيضاً أن البورجوازية في كل مكان من العالم الكولونيالي «سارت راضية النفس مطمئنة البال في طريق فظيع، مناقض لمصلحة الأمة، هو الطريق الذي تسلكه بورجوازية تقليدية، بورجوازية بورجوازية، بورجوازية ارتضت في غباء وحمق وحطة أن لا تكون إلا بورجوازية».

الوعي القومي والولاء القومي

ويقارن فانون بين البورجوازية الكلاسيكية وبورجوازية المجتمعات الكولونيالية. فيعتبر أن جور البورجوازية الكلاسيكية هو إقامة الدولة القومية الحديثة ونشر الوعي القومي والانتقال بالمجتمع من الولاءات الطائفية والقبلية والعائلية والمنطقية الى الولاء القومي. أما مع بورجوازية المجتمعات الكولونيالية، فالأمر يكاد يكون على العكس من ذلك. فالوعي القومي في هذه المجتمعات يعاني من ضعف. وكثيراً ما تنتقل البلدان المستقلة حديثاً من «حالة الأمة الى حالة القبيلة، ومن مستوى الدولة الى مستوى العشيرة». ويكون هم البورجوازية الحلول محل الأجانب والاستيلاء على امتيازاتهم.

ويميز فانون بين الوعي الوطني والوعي القومي ويعتبر أن الأول ممكن في مرحلة الاستعمار وأن الثاني لا يكون إلا مع الدولة القومية الحديثة حيث الاقتصاد القومي الكامل يتيح نمواً متساوياً لكل عضوية الأمة.

الطبقة الثورية عند فانون في المجتمعات الكولوهنيالية هي طبقة الفلاحين، ذلك أن البيئة الفلاحية في المجتمع المستعمر بفتح الميم هي البيئة الوحيدة التي تظل محافظة على أصالة تقاليدها وسلامة بناها من كل شوائب الغزو الاستعماري والتلويث الاستعماري.

وبالرغم من ركود الفلاحين وانكماشهم وما يمكن أن يولدا من حروب قبلية، إلا أن الجماهير الريفية تظل في عفويتها انضباطية تتصف بالغيرية. «أن الفرد ذائب هنا في الجماعة».

بمقارنة هذا الكلام مع كلام ماركس نلاحظ أن هناك خلافاً حول موضوعي الريف والمدينة.

فالمدن عند ماركس، هي المراكز الكبرى للإنتاج بينما هي، عند فانون، المراكز الكبرى للتلويث الاستعماري.

وفانون يدعو الثوريين الى «الفرار من المدن فرارهم من الطاعون» وهو رأي ريجي دوبريه، صديق غيفارا، أيضاً بينما يعتبر ماركس أن أفضل حسنات البورجوازية أنها حررت قسماً لا بأس به من السكان من «بلادة الحياة الريفية» وحكمت شعوب المدن بشعوب الريف.

ومع فانون نرى كلاماً عن الأمة والوعي القومي والاقتصاد القومي والأصالة القومية وهي ألفاظ غائبة، أو حاضرة في حالة موت، في تفكير ماركس وكتاباته.

الا أن هناك مدافعين عن ماركسية فانون يعتبرون أن كلامه عن الفلاحين لا يعني الفلاحين في كل مكان فهو لا ينكر أن الفلاحين في المجتمعات الأوروبية يعرقلون مسيرة التطور. والإمكانات التي يرجوها في الفلاحين موجودة فقط في فلاحي الكولونيالات وليس في غيرهم.

إلا أن كلام فانون يبقى ينقض أساساً نظريات الفكر الماركسي والادعاء بأن الثورة الاشتراكية لا تقوم إلا في المجتمعات المتطورة صناعياً، وأن مرحلة سابقة للاشتراكية يجب أن تمر هي مرحلة الديمقراطية البورجوازية.

ماركيوز: تبرجز العمال

مع ماركيوز، هربرت ماركيوز، يمكن العودة الى كلام لانغلز عن «تبرجز» العمال.

يتساءل ماركيوز عن سبب عدم قيام الثورة الاشتراكية في بلد يملك آلة الثورة، الطبقة العاملة، منذ أكثر من قرن. ويشرع ماركيوز في تحليل المجتمع الرأسمالي الصناعي المتطور، فيعلن أن الماركسية قد فشلت في التنبؤ في مستقبل هذا المجتمع. وأن دخول التكنولوجيا لم يكن من شأنه أن يسرع حدوث الثورة، بل على العكس من ذلك فقد أمنت التكنولوجيا للطبقة الحاكمة استقراراً خصوصاً أن الحاجات التي يمكن أن تقوم حركة تمردية تطالب بتسديدها تسدد هي بنفسها مع تطور وزيادة الإنتاج. ويصبح سخيفاً بعدها المطالبة بحقوق معينة لأن ما يقدمه المجتمع التكنولوجي يفوق ما يطالب به من حقوق. ويفضح ماركيوز الطبقة الحاكمة في الدول المتقدمة صناعياً فيتهمها بأنها تجعل الإنسان لا يتبين حاجاته الحقيقية ولا يميزها عن حاجاته المزيفة. ويقدم مثالاً الزيف في أن يكون للسكرتيرة سيارة بنفس فخامة سيارة زوجة صاحب العمل وأن يكون في متناولها نفس وسائل الراحة.

ويصف ماركيوز المجتمع المتقدم صناعياً بأنه عالم مغلق، عالم أحادي البعد، عالم يحيلك باستمرار الى ذاته، وبأنه محتاج دائماً الى اصطناع حاجات كاذبة هي التي تفسر التضخم المرضي فيه للدعاية والإعلان وسائر وسائل الاتصال الجماهيري.

ويتحدث ماركيوز عن وهم الحرية. فالإنسان في المجتمع المتقدم صناعياً يتوهم أنه حر لمجرد أنه حصل على الحرية في اختيار أسياده.

ولا يطالب ماركيوز برفض اعتماد التكنولوجيا فهو لا يعتقد بأن التكنولوجيا قد استعبدت الإنسان وإنما هي أوجدت لأول مرة في التاريخ الإمكانية الواقعية لتحرر الإنسان.

الحل: المنبوذون واللامنتمون

ولكن على من يعتمد ماركيوز في ثورته لتحرر الإنسان؟ لا يكتفي ماركيوز بأن يعلن أن الطبقة العاملة لم تعد عاملة التغير الاجتماعي بل أن هذا العامل لا وجود له في المجتمع الرأسمالي المغلق.

وإذا كان ثمة من أمل فهو معلق على القوى التي لم يتمكن المجتمع المغلق من دمجها به: المنبوذين على مختلف أنواعهم واللامنتمين والعاطلين عن العمل والطبقات والعروق والألوان الأخرى المستغلة التي لم تدخل أو لم يستطع المجتمع المغلق إدخالها في لعبته.

ماذا بقي من الماركسية الكلاسيكية التي نعرفها، المادية الديالكتيكية والتاريخية والصراع الطبقي والطبقة العاملة؟ لا شيء.

هل هو تطور في الماركسية أم تبدل مكتمل؟

لا شك أنه تبدل على محور الروح العلمي أو الطريقة العلمية في درس المجتمع ودرس إمكانات تطوره في هدف إنساني هو تحرير المجتمع من الاستبداد والاستغلال. إلا أن ما يجب التأكيد عليه هو أن طريقة التحرر وآلة التحرر ليست مع ماركيوز هي مع ماركس أو لينين أو فانون أو أي ماركسي آخر.

مسألة مهمة جداً يجب التأكيد عليها في كلام ماركيوز: إن القول بأن تاريخ المجتمع الإنساني لم يكن حتى الآن إلا تاريخ صراع الطبقات ـ وهو ما يتوج ماركس وأنغلز به بيانهما الشيوعي ـ قد سقط.

في الحلقة الماضية تكلمنا عن مساهما لنين وفانون وماركيوز في الفكر الثوري. وانطلقنا من فرضية أن لينين وفانون وماركيوز ماركسيون فعرضنا لماركسية كل منهم وخلصنا الى القول بأن لنين قد اخترق الماركسية بنظرية الحزب وإدخال عنصر الفلاحين الى الثورة، واستدركنا فقلنا أن لينين لم يكن يطمح الى إنشاء فلسفة لينينية خاصة. وأن أجلى مظاهر ماركسيته بارزة في كتاباته النظرية فقط. كما برهنا على أن فانون نقض الماركسية بمجرد أن أنشأ للعالم الثالث ما اتفق على تسميته «بمانيفستو» العالم الثالث وأن ماركيوز جاء ليجهز على ما تبقى من الماركسية وهي الادعاء بأنها من المجتمع الرأسمالي الصناعي المتطور وله. فكان معظم كلام ماركيوز تأكيدات على تلف الطبقة العاملة في المجتمعات الصناعية وعدم جدوى الاستناد اليها في العمل الثوري.

لكن يختلف المفكرون بشأن الفكر الماوي فيتهم البعض ماو بأنه قومي حاول الاستفادة من منهج الماركسية التحليلي ليصل الى تحقيق الوحدة القومية الصينية وإعادة مجد الصين، ويدافع البعض الآخر عنه فيعتبرون خلافه مع الماركسية الأورثوذكسية تطويراً خلاقاً مبدعاً.

غير أنه مع هذا الفريق وذاك يبقى ماوتسي تونغ مجدداً وصاحب مقولات غريبة عن الماركسية وإن كان أحد الفريقين يعتبر ذلك عملاً تحريفياً والآخر يعتبره إبداعاً.

غير أنه مع هذا الفريق وذاك يبقى ماوتسي تونغ مجدداً وصاحب مقولات غريبة عن الماركسية وأن كان أحد الفريقين يعتبر ذلك عملاً تحريفياً والآخر يعتبره إبداعاً.

ولا يقتصر الخلاف على دائرة المفكرين بل هو يتعداه الى دوائر التنظيمات السياسية العاملة في جميع أمم العالم. فالماوية تهمة يوجهها الشيوعيون «للمنحرفين قومياً» كما هي التروتسكية تهمة توجه للمنتقدين ستالين ومرحلة حكمه وأساليب عمله السياسي.

والتروتسكية وجهت لماو نفسه بعد أن خرج على الخط السوفياتي نظرياً وعملياً. وكانت هذه التهمة وستبقى صالحة للاستهلاك السياسي اليومي لولا أن التروتسكيين أنفسهم ردوها بهجومهم على الفكر الماوي واتهامه بالتحريفية والشوفينية.

ماذا في الماوية ما يحمل على الخروج على الخط السوفياتي أو يستحق هجمة التروتسكيين واتهامهم إياها بالتحريفية وكره الأجانب؟

الموسكوبيون والترتسكيون والماويون

في الصين، كما في الاتحاد السوفياتي، حزب شيوعي حاكم. وتسميته واضحة: الحزب الشيوعي الصيني. وهو يدين بالماركسية اللينينية ـ أفكار ماوتسي تونغ كما يعلن الصينيون أنفسهم. وماوتسي تونغ نفسه أعطي اسم «أعظم ماركسي ـ لينيني في عصرنا» من الشيوعيين الصينيين. وهو من قال بأن الثورة لا يقودها إلا حزب شيوعي يرفع لواء الماركسية اللينينية ويتخذ إيديولجية البروليتاريا مرشد عمل. وإذا كان أن ماوتسي تونغ يمهد لمقاله «في التناقض» ـ وهو المقال الرئيسي الذي يعتمد لقراءة ماو وفهمه ـ بأن يهاجم الجمود العقائدي والخط التحريفي، كليهما، معاً، فقد سبقه لنين الى ذلك فرفض التطبيق الجامد لماركسية كما رفض الانحراف بها عن منطلقاتها الرئيسية الخاصة.

وإذا كان الخللااف الأساسي والرئيسي بين التروتسكيين والشيوعيين الموسكوبيين يرتكز إلى سوء وحسن النظر الى ستالين وسياسة حكمه فيعتمد التروتسكيون أخطاء لستالين تاريخية لتدعيم موقفهم السلبي منه، فالشيوعيون الموسكوبيون والصينيون لهم حال آخر. فستالين، كلنين، محترم في الصين وصورة مرفوعة في كل مكان وقابلة للبروز في كل مناسبة وطنية على الرغم من الأخطاء المميتة التي ارتكبها بحق الشيوعيين الصينيين أيام حكم تشان كاي تشيك والتي تسببت بأبشع المجازر الدموية التي عرفها تاريخ الصين.

مميزات الفكر الماوي

يتميز الفكر الماوي بما يلي:

أولاً: هو يبدأ من الأمة أولاً فيعتبر أن بناء الأمة الصينية الهدف الأول لكل تحرك شعبي ثوري في الصين. وهو يشتمل على نظرة جديدة لمفهوم الأمة والقومية لم يعرفها الفكر الماركسي الكلاسيكي من قبل.

ثانياً: هو يعتبر أن التناقض الرئيسيهي بين الإمبريالية وحركة التحرر القومية. وأن التناقضات الأخرى تناقضات ثانوية لا يجوز إزالتها بالعنف بل بالنقد.

ثالثاً: هو يرى أن العالم واقع أمم. وأن بناء الأمة يبدأ من الاعتماد على النفس. وأن كل تدخل من قبل أمة قوية بشؤون أمة ضعيفة هو اعتداء على حقها في تقرير مصيرها. لذلك، مثلاً، تنطلق الاتهامات الصينية الى الاتحاد السوفياتي بأنه دولة اشتراكية امبريالية التسمية محض صينية .

وتبني المقولات الماوية يعني بالضرورة استبدال المدنية كبؤرة ثورية بالريف. واستبدال الطبقة البروليتارية، كقوة قائدة للثورة، بالطبقة الفلاحية وحزب الثوريين المحترفين، كأداة للكفاح، بالجيش الشعبي والاضرابات العامة والمظاهرات السياسيةن كأشكال للنضال، بحرب الأنصار.

مع كل هذه الفروقات بين الفكر الماوي من جهة والفكر الماركسي والآخر اللينيني والثالث السوفياتي من جنة أخرى يبدو الفكر الماوي فكراً جديداً ويخرج تماماً عن خط الفكر الماركسي ولا تعود كلمة «إنماء» تكفي، كما لا تعود تكفي كلمة «تطوير» ويصبح استعمال تعبير «تبديل» ضرورة.

غير أنه من الضروي للتعرف إلى الفكر الماوي البدء بالظروف التاريخية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي وجد ماوتسي تونغ فيها والظروف الخاصة التي عاشها ماو والتي بينها وبين ظروف الشبيبة الصينية، بشكل عام، تطابق شبه كلي. من الصين وواقعها وترأثها، ومن ماو ونشأته وتأثيراته نبد، لا من الفكر الماركسي الاورثوذكسي ولا مشتقاته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى